من يملك القرار؟ من يُحرّك عجلة الاقتصاد؟ من يرسم خرائط النفوذ؟ هل لا تزال العواصم، البورصات، أو المراكز التجارية تتحكم كليًا باقتصاد العالم؟ أم أننا نشهد ولادة عمق جديد، تشكل مع الثورة التكنولوجية المتسارعة؟ وإن لم تكن هذه ثورة، فهل تكون بداية علم جديد؟ هل الدولة التي لا تمتلك موارد طبيعية اليوم تُعد حتمًا دولة فقيرة؟ أم أن المشهد تغير، وباتت دولة صغيرة بلا موارد قادرة على التحكم – ولو جزئيًا – بمفاصل الاقتصاد العالمي؟ العديد يظنون أن هذه الأسئلة لها أجوبة متعددة، لكن الحقيقة تبدأ من مفهوم جديد لا يعرفه كثيرون، رغم أنه أصبح يتحكم في كل شيء تقريبًا: علم الجغرافيا الاقتصادية. المنافسة خرجت من المحيطات إلى الإنترنت، الخرائط تغيّرت ولم تعد الحدود كما نعرفها. لم تعد المنافسة مقتصرة على المطارات والموانئ، بل انتقلت إلى الفضاء الرقمي، اليوم دولة صغيرة قد تتحول إلى مركز مالي عالمي، وقرية ساحلية قد تصبح ميناء يغيّر موازين التجارة العالمية، قبل خمسة عقود، كنا نُجهد أنفسنا لفهم ماذا تعني العولمة، أما اليوم، فالعولمة نفسها أعادت رسم الخريطة الاقتصادية للعالم، صحيح أن الجغرافيا الطبيعية ما زالت مؤثرة، لكننا نعيش الآن في عالم مواز، عالم رقمي ديناميكي غير مرئي، يملك القدرة على التأثير في حياة أسرة فقيرة تصنع أواني من قش في أقصى آسيا، وتبيعها في أغلى المتاجر في أوروبا وأمريكا! الجغرافيا الطبيعية تفسر لنا لماذا تنتج الصين وألمانيا واليابان، ولماذا تتحكم السعودية بنفط العالم، لكن الجغرافيا الاقتصادية كعلم جديد، هي التي تبين لنا حركة رؤوس الأموال وأين ينام صناع القرار، وكذلك أين يعيش المستهلك وماذا يحتاج أو إقناعه بماذا يحتاج، وكم معه من قوة شرائية، وكيف يقتنع المستخدم النهائي بالشراء حتى وإن كانت قيمة ما يملك لحظة الشراء صفر، وكيف يمكن لتطبيق ذكاء صناعي أن يتحكم بمصيرك يوميا، أين يعيش هذا التطبيق؟ هل بعد إطلاق التطبيق تستمر السيطرة البشرية عليه؟ أم أن هذا التطبيق أصبح له جغرافيا اقتصادية خاصة به، وأصبح واقع حاله ونتائجه وحجم انتشاره من يتحكم بالعقل البشري الذي أطلقه أول مرة؟ الإجابات على كل ما ورد أعلاه ليست اختيار من متعدد، قد تكون أنت الآن أجبتها جميعا، ولكن من بجوارك قدم أجوبة مختلفة، وإن تطابقت أجوبتكم، هل يعني أنها صحيحة، أو مجرد صدفة؟ بالتأكيد ليست صدفة، لأن كل الأجوبة مرتبطة بالجغرافيا الاقتصادية لمكان صاحبها: موقع، مناخ، موارد، وطرق نقل، وعليك أن تسأل نفسك هل المكان ملموس يمكن لـ»Google Map» أن يظهره لك؟ عذرا عزيزي القارئ، فلقد أخبرتك مسبقا انه علم جديد، وكل علم جديد لا بد وأن يبدأ بالأسئلة والتشكيك والاستفسارات، وحين نقول عالم افتراضي يقدمه لنا الإنترنت والذكاء الصناعي، فعلينا الاقتناع ابتداءً أن لكل عالم حدود وتشكيل وتضاريس وطقس وعناصر، كلها تشكل لنا الجغرافيا، الجغرافيا الاقتصادية التي نتحدث عنها اليوم. الجغرافيا الطبيعية قد تكون نعمة أو نقمة، أما في علم الجغرافيا الاقتصادية الجديد، فإنه يمكن تحويل الموقع الى فرصة، والنقمة الى نعمة، ويمكن تعزيز استدامة النعمة، الأمر يحتاج الى تفصيل كثير في موضوع العصر الجديد للجغرافيا الاقتصادية، علينا أن نؤسس لركائز هذا العصر، أن نتلمس موقعنا عليه، أن نوسع حدودنا فيه، ليست جغرافيا وحدود تقليدية، بل حدود لا تعرف ضوابط خطوط الطول والعرض، ولا تعترف بخط الاستواء إلا إن كان الأمر يتعلق ببناء منتجعات سياحية استثمارية، أو بيع منتجات طبية من قلب البحر الميت، أو استغلال مكونات من أعشاب على أرض جبلية تعوض ما لا ينتجه جسم الإنسان من فيتامينات. هو خيط رفيع بين ما قد تجده على جوجل إذا كتبت الجغرافيا الاقتصادية، حيث ستقرأ توزيع الموارد والموانئ والتضاريس الطبيعية، وبين علم الجغرافيا الاقتصادية الجديد الذي يجعلك تشتري وأنت في بيتك في « حفر الباطن « جهاز تدليك الرقبة من الصين، ليصلك ثاني يوم بخيارات ادفع مقدما واحصل على خصم، أو الدفع نقدا عند التوصيل، العالم الاقتصادي اليوم، ليس كما يبدو على الخرائط السياسية، هناك خريطة خفية تتحكم في كل شيء، غير مرئية ترسم قراراتك دون أن تدري. إنها خريطة الجغرافيا الاقتصادية، افهمها جيدًا، وستفهم كيف يتحرك العالم من حولك. HaniAlmahri@yahoo.com