×
محافظة الجبيل

تحويل المؤسسة العامة للتدريب التقني إلى جامعة صناعية ضرورة سيادية لا خيار تنموي! - د. سطام بن عبدالله آل سعد

صورة الخبر

على مدى أكثر من أربعة عقود، شكّلت المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني العمود الفقري لمنظومة التعليم الفني في المملكة، وأسهمت في إعداد وتأهيل الكوادر الوطنية وفقًا لمتطلبات سوق العمل. ومع التحولات الاقتصادية العميقة التي تشهدها المملكة ضمن رؤية 2030، لم يعد ممكنًا استمرار المؤسسة في أداء دورها التدريبي التقليدي، بل باتت الحاجة ملحّة لقفزة استراتيجية تجعل منها ذراعًا رئيساً للابتكار والتوطين الصناعي والمعرفي، من خلال تحولها إلى «جامعة صناعية سعودية» تقود مستقبل التعليم التطبيقي والصناعي، وتواكب نهضة المملكة التنموية. تمتلك المؤسسة موقعًا استراتيجيًا فريدًا يجعلها مؤهلة لتصبح نموذجًا وطنيًا لجامعة صناعية، بل وتتفوّق على كثير من المؤسسات التعليمية في جاهزيتها. فهي تتمتع بانتشار جغرافي واسع يضم أكثر من 283 منشأة تدريبية، وبنية تحتية يمكن تطويرها إلى شبكة كليات صناعية متكاملة. كما تقدم برامج بكالوريوس تقنية تطبيقية تشكل نواة قابلة للتوسعة نحو نظام جامعي شامل. وتُعدّ حلقة وصل قوية بين التعليم وسوق العمل، بفضل شراكاتها مع كبرى الشركات الوطنية والخاصة، مما يجعلها بيئة مثالية لتعليم مرتبط مباشرة بالقطاع الصناعي. وقد حققت تقدمًا ملحوظًا في مؤشرات الأداء العالمية، بصعودها إلى المرتبة التاسعة عالميًا في مؤشر المعرفة 2021، ما يعكس نضجها المؤسسي وجودة مخرجاتها. هذه المقومات تضعها في موقع مثالي للتحول إلى جامعة صناعية رائدة، مستلهمة نماذج عالمية مثل MIT الأميركية وKAIST الكورية، لكن برؤية سعودية تنسجم مع طموحات التنمية الوطنية. ويأتي ذلك انسجامًا مع تطلعات رؤية 2030 لبناء اقتصاد صناعي متنوع وقائم على الابتكار، يتطلب كوادر وطنية عالية التأهيل في مجالات مثل الطاقة، الروبوتات، التصنيع المتقدم، والذكاء الاصطناعي، ضمن بيئات تعليمية تندمج مع خطوط الإنتاج، لا تقتصر على القاعات الأكاديمية. وفي ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في المنطقة، تتجلى أهمية امتلاك بنية صناعية وتقنية مستقلة كعامل حاسم في صيانة السيادة الوطنية. فالدول التي تعتمد على الخارج في صناعاتها الاستراتيجية تظل رهينة التغيرات الإقليمية ومزاج الحلفاء. ومن هنا، فإن تأسيس جامعة صناعية سعودية متخصصة لا يُعد فقط خيارًا تنمويًا، بل ركيزة من ركائز الأمن الوطني، تُسهم في توطين التقنية، وتأهيل الكفاءات الوطنية، وبناء صناعة مستقلة قادرة على دعم الاقتصاد في مواجهة التقلبات العالمية والتحولات الإقليمية. فلقد أظهرت الأزمات أن الأمن الصناعي لا ينفصل عن الأمن السياسي والعسكري، وأن من لا يُنتج لا يتحكم في مصيره. إنّ الجامعة الصناعية تمثّل أيضًا حلاً عمليًا لسد الفجوة بين التعليم وسوق العمل، من خلال تصميم برامج تكاملية مع شركاء الصناعة، وتطبيق نماذج «التعلم بالممارسة» كالتدريب التعاوني والتعليم في بيئة المصنع. كما تُعد ركيزة لتحقيق السيادة المعرفية والصناعية، على غرار التجارب الألمانية والكورية، التي ارتكزت على جامعات تقنية مرتبطة بالمصانع وقادت إلى توطين التقنية وبناء كفاءات وطنية مستقلة. ويمتد أثر هذا التحول ليشمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية. اقتصاديًا، يسهم في إنشاء حاضنات ومسرّعات صناعية جامعية تُمكّن الخريجين من تطوير مشاريعهم التقنية والابتكارية، كما يقدّم بديلًا محليًا عن الكفاءات الأجنبية، مما يخفض التكاليف ويرفع كفاءة الأداء في المصانع. اجتماعيًا، يفتح آفاقًا جديدة للشباب عبر تعليم تطبيقي عالي العائد الوظيفي، ويعيد تشكيل الصورة الذهنية للمهن التقنية من خيار ثانوي إلى مسار استراتيجي واعد. كما يوفّر فرصًا نوعية للمرأة السعودية في تخصصات تقنية نادرة، تدعم التنوع الاقتصادي والمشاركة التنموية. يقوم النموذج المقترح للجامعة على منظومة متكاملة تجمع بين التعليم التطبيقي، البحث والابتكار، وريادة الأعمال، في إطار شراكات استراتيجية. وتضم كليات صناعية متخصصة، مثل: كلية التقنية الصناعية المتقدمة، وكلية الطاقة والتقنيات المستدامة، وكلية الذكاء الاصطناعي والروبوتات، إضافة إلى معاهد بحث وتطوير مثل معهد الابتكار الصناعي، ومعهد توطين التقنية، ومعهد التعليم بالممارسة. وتتكامل هذه المنظومة مع وحدات لريادة الأعمال تشمل حاضنات صناعية ومراكز لتطوير المنتجات، مما يُمكّن المبدعين من تحويل أفكارهم إلى شركات ناشئة. وتُبنى هذه البنية على شراكات فعالة مع كيانات كبرى مثل أرامكو، سابك، نيوم، وزارة الصناعة، الهيئة الملكية، وصندوق التنمية الصناعية، لتكون الجامعة شريكًا فاعلًا في تنفيذ استراتيجيات التوطين والتنمية. ويتطلب هذا التحول خطة تنفيذ مرحلية دقيقة. تبدأ بتشكيل لجنة وطنية تضم وزارات التعليم، الصناعة، الاقتصاد، إلى جانب ممثلين من القطاع العام والخاص، تتولى إعداد خارطة طريق متكاملة. يلي ذلك إطلاق نموذج تجريبي في ثلاث مناطق (الرياض، جدة، الجبيل) بما يتيح تقييم التجربة والتوسع لاحقًا. كما تُعاد هيكلة البرامج الحالية لتصبح جامعية تطبيقية، وتُبنى حوكمة مرنة تجمع بين التعليم العالي والصناعة، مع استقطاب هيئة تدريس ذات خبرة صناعية، وإطلاق برامج دراسات عليا في تخصصات مثل الهندسة الصناعية وأمن الصناعة والتقنيات المستقبلية، لتأهيل قيادات صناعية وطنية. إن تحويل المؤسسة إلى جامعة صناعية ليس مجرد تطوير إداري أو تعليمي، بل هو تحول وطني يعيد تعريف العلاقة بين التعليم والتنمية، ويضع المملكة في موقع الريادة الصناعية والمعرفية. المملكة اليوم لا تحتاج فقط إلى من يتعلم، إنّما إلى من يبتكر ويصنّع ويقود، من التدريب إلى التصنيع، ومن مراكز التعليم إلى مصانع الأفكار. ** ** - مستشار التنمية المستدامة