×
محافظة الأحساء

(الروائي اليافع أسامة المعقل) ثقافة أدبية تحاكي التلقي - شوقية بنت محمد الأنصاري

صورة الخبر

نجح الطفل العربي في الانغماس في القراءة وصنع منها دهشته، واكتنز مخزونا لغويا أرشده لتشكيل عالمه الإبداعي الأدبي في قالب يحبك حرف صنعته ويهندس فلسفته، فوضع بصمته كقاصٍ وروائي وشاعر وفنان وإعلامي ومبتكر. وتتجلى بساحتنا الأدبية ظاهرة متميزة (الطفل الأديب - اليافع المؤلف) فتعكس إمكانيات المجتمع المتحضر ثقافة وإنسانية في صقل مواهبهم الخيالية والإبداعية، ففيه دليل على قدرة وعي الجيل لاستيعاب الانفتاح على ثقافة العالم بطرق فريدة ومبتكرة، وقد شهدت منابر توقيع دور النشر بمعارض الكتاب نمو هذه الظاهرة بنتاج أدبي متنوع الفنون لهذه الفئة. من هنا، جاء اهتمام المؤسسات الثقافية بإشباع خيال الطفل/اليافع وتوفير مادة قرائية عبر المكتبات ودور النشر، ليؤسس من جوهر رؤيته النقية الطاهرة رسالته الواعية للعالم، فأنتج نصوصا أدبية مدهشة، لتأتي اللغة كبرهان لمداركه، فالطفل/اليافع يرى في الكلمات مادة يستند عليها لبناء ثقته، ويستخدمها لحاجته التعبيرية، دون أن يكون مقيّدًا بقواعد اللغة والنحو، «ويتحمس لمعرفة الكثير عن البيئة المباشرة.. وعن العالم حوله، ويزداد لديه حب الاستطلاع.. فتكون اتجاهاتهم الاجتماعية أفضل.. ويلاحظ النقد الموجه إلى الكبار والنقد الذاتي.. فيتحدى هذه الآراء وتلك الأفكار في أسلوب جدلي»، يصف عالم النفس الأمريكي (غرانفيل ستانلي) هذه المرحلة بقوله: «فترة عواصف وتوتر وشدة، تكتنفها الأزمات النفسية ويسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق بسبب تغيرات البلوغ ويرى البعض في حياة المراهق مجموعة من التناقضات» وفي رحلة تجربتي التطوعية الثقافية مع المواهب الأدبية، التقيت باليافع (أسامة المعقل) في محافظة الأحساء يسوّق للسياحة الثقافية في جبل قارة الأثري، عن تجربته الروائية الأولى وهو لم يتجاوز 15 من عمره، واليوم يخطو مشارف المرحلة الثانوية ولم ينفصل عن القراءة والكتابة الروائية، فأصدر ثلاث روايات بطولية، نبحر في سرد معالمها الجمالية، لكونها إضافة مميزة للأدب العربي المعاصر. يعكس (المعقل) من خلالها تجارب إنسانية عميقة وقضايا اجتماعية معاصرة، كالهوية، والحب، والفقد، والذاكرة، مستخدمًا خلفيته التاريخية الثقافية والاجتماعية بتساؤلات فلسفية عميقة بالوجود والتجربة الإنسانية، فيبعث من خلال رواياته توجيه القرّاء للمغامرات المثيرة والجديدة، ويثير فضولهم نحو المعرفة، لنقف على رحلته في التلقي لما بعد القراءة، حيث انطلق من هذا المفهوم مؤسس نظرية جمالية التلقي (آيزر) لينادي بالقراءة المشتركة ووجهة النظر الجوالة، فيعيش القارئ بعدها تجربة اختزنها من القراءة التدريجية التي تظهر جليا في كتابات (المعقل).. وقد أسدل الستار عن أسلوب كتابي جديد، وهو ما أسماه (آيزر) بتقنية الكاتب (القراءة الذاتانية) الذي لم يعد يقف عند التجربة الجمالية كونها لا تلامس حاجته، فيكتب بلغة غير جمالية تمثل الجانب الخفي لمجتمع لا يلتفت لمقصده، ويضع أساسا للفهم وإنتاج المعنى، وهنا يتجلى (أفق الانتظار) حين يصل التأثير الجمالي إلى إعادة بنية التجربة. و(أسامة المعقل) يترجم من خلال رواياته الثلاثة دلالات التلقي من كونه قارئا ناقدا يهتم بتاريخ التجاوب والتأثير من النص الأدبي، ودوره كقارئ حقيقي بردود أفعاله الموثقة للحدث، وظهر أيضا كقارئ مثالي يصعب تكييفه لاتساع التجارب، بصفات استكشافية، تتماشى مع سياق ثقافي نشأ عليه. ففي رواية سدن تتمحور رؤية (المعقل) حول فكرة العوالم الموازية والخيال الغني بالتفاصيل، باختياره لشخصية (سدن) الفتاة التي تجد نفسها في عالم غريب مليء بالألغاز، يختبر إرادتها وشجاعتها، فالرواية تعكس رحلة الإنسان في مواجهة المجهول والقوى الخارجية التي قد تتحكم في مصيره، كقوله: «هذا حال الكثير من القرى يسترخصون دماءنا كالحيوانات»، متخذا من الرمزية الفلسفية الوجودية مدخلا، كقوله: «ماذا تفضلين؟ حياتك السابقة أم الحالية. سدن: بالتأكيد حياتي الحالية..حياتي السابقة كانت جحيما، لا أحد يحترمني». أما رواية حسناء الدم فتتميز بالطابع المشوّق المظلم، حيث تتناول مفهوم الانتقام من خلال العلاقات الإنسانية المعقدة. و(حسناء الدم) شخصية غامضة تحمل أسرارًا قديمة وقوى خفية تجعلها تسعى وراء الثأر في عالم يملأه الفساد والخيانة، كقوله: «يا غبية كيف سأهرب وأنا مقيد؟ لقد أتى أحدهم هنا قبل مجيئك...وترك صناديق ورسالة صغيرة» فالرواية تعكس المشاعر المتضاربة بين الحب والكراهية، وتسلط الضوء على المفاهيم الأخلاقية والعدالة الفردية. أما رواية (أنتاركتيكا) فتعتبر مزيجاً بين الخيال العلمي والتشويق، وتدور أحداثها في مستقبل القارة القطبية أنتاركتيكا، بسرد رحلة مجموعة من العلماء والمستكشفين الذين يواجهون ظروفًا قاسية وأسرارًا دفينة تحت الجليد، كقوله: «وصل إيريس إلى الشلال الأحمر وقد نسي الواقع وهو ينظر له وإذا بصوت مألوف يناديه: أيها القزم، لم يلتفت له ونظره لم يفارق الشلال» مستعرضا قضايا تتعلق بالتكنولوجيا، البيئية، والبقاء على قيد الحياة، مع اهتمام خاص بالبعد الإنساني وسبل التكيف مع البيئات المتطرفة. نحن بصدد التغيير نحو قراءة نقدية لكشف مكامن النص من أفق القارئ الجديد أسماه (آيزر) بالقارئ الضمني فتتحول البنية النصية إلى تجارب شخصية من خلال أنشطة تصويرية روائية. والنافذة الأولى للإبداع هي العنوان، ربط شراكة بين القارئ والنص، بحيلة لغوية واستراتيجية كتابية لاصطياد القارئ، وقد جاءت العناوين مثيرة للقارئ الذي أقبل على الرواية بخبراته السابقة ومعرفته المحدودة؛ فالرواية الأولى (سدن) رسمت ملامح الخجل والاختباء خلف هذا الحجاب الساتر لكثير من قراراته ورأيه في تجارب المجتمع وواقعه. كما جاء عنوان رواية (حسناء الدم) مركَّبًا من كلمتين، مثيرًا لفضول القارئ وتساؤله لما يحمل من مفارقة عجيبة بين الجمال والدم في حدث مستحيل تعجيزي، كقوله: «أوه أجنحة التنين.. إنه مجرد شيء جربته مع صديقتي.. جربي أجنحة الكناري» ، في حين تأخذه المغامرة نحو التجريب في رواية (أنتاركتيكا) حيث الخيال العلمي والفانتازيا لآفاق لم يراهن عليه المجتمع، معتمدا على جملة من الذكريات والاهتمام والانتباه والكفاءة الذهنية، كقوله: «جوزاء تسقط من مكان عال نظرت فوقها لترى بوابة نجمية بجوارها القاضية.. رأتها تبتلع نفسها» . تعد (رواية سدن) التجربة الروائية الأولى لـ(المعقل) تحمل في طياتها طابعاً سردياً يتناول قضايا إنسانية واجتماعية مع التركيز على الجانب النفسي للشخصيات، حيث ينقل الكاتب للقارئ تفاصيل الحياة اليومية بأبعادها الاجتماعية والثقافية، فالشخصية الرئيسة في الرواية (سدن) تتميز بالعمق النفسي والصراع الداخلي، فتظهر من خلال التناقضات التي يعيشها الإنسان بين ما يريده المجتمع وما يريده هو كفرد، وهي صورة عكسية للحيرة والبحث عن الذات. بنى (المعقل) حبكة الرواية من الصراعات النفسية والاجتماعية، مما يضفي على العمل دراما داخلية، تتطور بطريقة سلسة وتدريجية، وتتعقد مع مرور الزمن، في لغة أدبية قوية تتسم بالسلاسة والوضوح، وأسلوب سردي متنوع الوصف، دقيق التأمل للحالة النفسية، بحوار يعكس طبيعة كل شخصية وموقعها في المجتمع. تجربة (سدن) الخجولة لم تغفل القضايا الاجتماعية كقيود المجتمع، والضغوط العائلية، وتأثير التقاليد على الأفراد. و(المعقل) حين طرح هذه القضايا لم يدلِ بحكم مباشر، بل ترك الاستنتاج للقارئ، واختبأ خلف حجاب (سدن) لأنه يميل إلى استخدام خلفيات تاريخية، سواء في السياقات المحلية أو الإقليمية، ليظهر اهتمامه بتوثيق فترة معينة، كقولة: «البائع: 12 قرش.. لم تقرأ هذه العجوز الكف منذ 25 سنة». رواية (حسناء الدم) تثير كثيرا من التساؤلات حول تداخلات الفانتازيا والواقع في الأدب العربي المعاصر، فتتناول الرواية مجموعة من المواضيع التي تجمع بين الغموض، الرعب، والصراع الداخلي للشخصيات، مما يجعلها نصًا متعدد الطبقات ويستحق التحليل النقدي العميق، فالعنوان (حسناء الدم) يحمل دلالة رمزية قوية، ويجمع بين مفردتين متناقضتين: الجمال والعنف، فوظّف بعض الاستعارات لتضيف لمسة جمالية للنص عند التعبير عن مشاعر الشخصيات أو توصيف المواقف الحاسمة، كقوله: «عندما رأيت نور طيفك ارتعشت، أشرقت شمسك وغربت، لن تلقى قمري، لو كانت تلك الشمس تحدق بي، لبكت حزنا على حالي»، وهنا نلحظ التحوّل في لغة (المعقل) ليوظف أسلوب السرد الغامض، مما يُبقي القارئ في حالة من الترقب والتساؤل، كما استخدم أسلوب الحبكة المتماسكة رغم غموض التفاصيل، ليخدم فكرته الجريئة بين الواقع والخيال، بإتاحة تفسير الأحداث وفقًا لتصوراته الخاصة، واختياره للشخصيات، وعلى رأسها البطلة حسناء، حيث تعيش صراعًا بين عالمين: عالم الجمال والأنوثة، وعالم الرعب والدماء. هذا الصراع يعكس التيه في هوية المجتمعات المعاصرة، وشكل للدماء رمزية في الانتقام والرعب، حيث الصراع بين الخير والشر لا ينتهي. رواية (أنتاركتيكا) فلسفية واستكشافية عميقة، تتناول مواضيع تتعلق بالوجود، العزلة، والبحث عن الذات في عالم مليء بالتناقضات، من خلال خلفية القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) كرمز للعزلة المطلقة والبيئة القاسية التي تعكس الظروف النفسية لشخصياته، مستخدما لغة تجعل النصوص ممتعة للقراءة ومليئة بالدلالة: «وضربت بمطرقتها الذهبية بأقوى من ذي قبل واهتزت المحكمة وعاد الهدوء»، فقارة أنتاركتيكا بقسوتها وبرودتها تعكس حال الشخصيات التي تعيش في عزلة فكرية أو عاطفية، أو جسدية، ونفسية، فتبحث عن معنى وجودها وسط عالم لا يرحم، مجبورة على مواجهة ماضيها وأفكارها الداخلية في هذه البيئة القاسية. وقد وفق (المعقل) في توظيف لغة التأمل الذاتي المحفوف بالغموض، فظهرت جرأته النقدية لسياسة مجتمعه بأسلوب مبطن. وهكذا نختم قراءة هذه التجربة الروائية لـ(أسامة المعقل) وخياله الواسع في نسج عوالم جديدة وشخصيات ملهمة، تسهم أنساقها السردية في تطوير مهارات التفكير النقدي والإبداع لدى الكتّاب اليافعين، وتشجعهم بحماس على الكتابة التعبيرية عن أفكارهم ومشاعرهم بطرق مبتكرة، علاوة على ذلك، تتيح رواياتهم فرصة للقراء من نفس الفئة العمرية للتواصل مع قصص تعكس واقعهم وتجاربهم، ووعيهم لفهم الذات والآخر، مما يساهم في رؤية القارئ الناقد لإبداع اليافعين وقدرتهم الروائية لبناء مجتمع أكثر تفهمًا وتقبلًا للإبداع، بقراءة تفاعلية، وتواصلية مماثلة، بإدراك وجهات النظر المتبادلة والمتغيرة لدى القارئ المتنوع بكل أطيافه كما رسمها (آيزر).