المبادرات غير الربحية، بما فيها مشروعات مثل متحف "آسان"، تؤكد أن الحفاظ على التراث ضرورة لبقاء الروح الإنسانية مشرقة في وجه رياح التغيير، وبها يصير الوفاء للماضي بذرةً صالحة في تربة المستقبل.. في زحمة العصور المتسارعة، وفي ظل شغف العالم بمطاردة الجديد، هناك قلوب نذرت نفسها لحراسة القديم، وللوقوف شامخة على تخوم الذاكرة الجماعية للأمم. هذه القلوب تجسدت في مبادرات غير ربحية، تسعى لبقاء الأثر، وإحياء الروح، وحفظ ما كان ليُفنى، بالعشق العميق للتراث والوفاء له ليبقى حكايةً عظيمةً وجسرًا من نور. فمن توثيق مخطوطٍ تآكلت حروفه على أطراف الزمن، إلى ترميم منزلٍ تركت عليه القرون نقشها، إلى إعادة بعث أغنيةٍ شعبية تكاد أن تختنق بين الضجيج المعاصر، تتوزع أدوار هذه المبادرات، ويبقى مقصدها واحدًا.. ألاّ يضيع الماضي من ذاكرة الأجيال!. وأهمية المبادرات غير الربحية لحفظ التراث تتجلى في حماية الهوية من الذوبان وسط عواصف التشابه العالمي، ترسيخ الانتماء الوطني والثقافي في وجدان النشء الجديد، فتح أبواب التنمية الاقتصادية المستدامة عبر السياحة الثقافية والصناعات الإبداعية، وبناء جسر متين يصل بين من مضوا ومن سيأتون، حتى تظل الأرواح تتهامس عبر الزمن. ومرورًا على التجارب العالمية للمبادرات غير الربحية وصون التراث، حينما ينتصر الوفاء على النسيان نجد صندوق التراث العالمي في الولايات المتحدة المتحدة الأميركية، الذي نشأ منذ عام 1965، حيث وضع صلب فكرته في إنقاذ المواقع الأثرية التي كادت تسقط صريعة الإهمال والحروب، فقد أنقذوا معالم في البتراء، وأعادوا وهج المعابد في كمبوديا، كل ذلك بأيدٍ تخط قصص الوفاء للإنسانية. ومرورًا باليابان نجد جمعيات حفظ الفنون التقليدية في بلاد الشمس المشرقة، حيث لكل حركة معنى ولكل نغمة تاريخ، فكانت الجمعيات غير الربحية السد الذي وقف أمام جفاف الذاكرة، وحملت على عاتقها حفظ روائع "الكابوكي" و"النوح"، لتغني بها الأرواح جيلاً بعد جيل. ومرورًا بعالمنا العربي نجد دار الوثائق القومية في مصر كمؤسسة حكومية لا تهدف إلى الربح، تمثل الذاكرة الحية للأمة المصرية، وتحتفظ بسجل تاريخي زاخر يوثق تطورات الدولة والمجتمع عبر العصور. وفي قلب الجزيرة، حيث تنسج الرمال قصائد الخلود، وُلدت مبادرة متحف مسك للتراث "آسان"؛ لتعطي للتراث السعودي صوتًا عالميًا حيث يُروى الحلم بلسان الأثر. حين أعلنت حرم سمو ولي العهد، صاحبة السمو الملكي الأميرة سارة بنت مشهور بن عبدالعزيز آل سعود، إطلاق برامج متحف مسك للتراث "آسان"، المقرر افتتاحه في غضون السنوات القادمة في منطقة الدرعية، إحدى أهم المناطق التراثية في المملكة، وسيساهم المتحف ببرامجه وفعالياته المتنوعة، في تعزيز الاستدامة الثقافية في المملكة؛ ليُشكّل مرجعًا ثقافيًا عالميًا وصرحاً بارزاً يحتفي بعراقة التراث السعودي المادي وغير المادي. ويُعد المتحف مبادرة غير ربحية تهدف إلى صون التراث السعودي، والاحتفاء بأصالته وتنوعه من خلال عرض مجموعات واسعة من القطع والمقتنيات التراثية في معارض تفاعلية ومساحات ملهمة تتيح للزوار خوض تجارب غنية تأخذهم في رحلة عبر الزمن. كما يسعى "آسان" لبناء جيل يعتز بتراثه ويعمل على صونه وإحيائه، من خلال المتحف الذي يحتوي على كل ما يدل على إرث وحضارة المملكة من قطع أثرية وعادات وقِيم مجتمعية، بحيث يتماشى المتحف مع أهداف استدامة الموروث السعودي وإثرائه بما يتوافق مع الهوية السعودية، ليعكس الماضي والحاضر ويستمر في خدمة أجيال المستقبل. كما يحتضن متحف "آسان"، والذي سيقام على مساحة 40,000 متر مربع، على العديد من الأجنحة التي تشمل المعارض الدائمة والصالات الفنية وساحات الفنون التي تعكس تنوع وحيوية التراث السعودي، كما سيضم المتحف مجلسًا مخصصًا لتبادل الآراء والأفكار وتنظيم ورش العمل والحوارات البنّاءة لإحياء التراث، بالإضافة إلى مساحات مخصصة لتعزيز النمو المهني والمعرفي في مجال حفظ التراث، وترميم وصيانة القطع والمقتنيات الأثرية والتراثية من خلال مختبر الترميم. وسيقدم المتحف أيضاً مجموعة متنوعة من البرامج والأنشطة التعليمية التي تهدف إلى توثيق وصون التراث تحت إشراف خبراء متخصصين، إضافة إلى تجارب تفاعلية مستوحاة من التراث السعودي، مثل: رسم نقوش الحناء، وتصميم العطور، والاستماع لسرد القصص التراثية، والمشاركة في صناعة العديد من الحرف اليدوية التقليدية، كل ذلك تحت تصميم مبتكر مستوحى من الطابع العمراني النجدي، العاكس للهوية التراثية والمعمارية للمملكة. "آسان" الذي ننتظره بشغف، ذلك الاسم الذي يستحضر في الموروث الشعبي معنى السهولة والوضوح، التزامًا منه بأن يكون التراث قريبًا من كل عين، وماثلًا لكل وجدان، والذي يجسّد مباشرة اهتمامات الأميرة سارة بنت مشهور آل سعود، والتزامها العميق بالحفاظ على التراث السعودي وإبرازه بطرق مبتكرة ومعاصرة، والذي يظهر من خلال رعاية سموها للبرامج الثقافية التي تُحيي التراث السعودي بأبعاد فنية واجتماعية، ودعمها لمبادرات تمكين الأفراد، ولا سيّما الشباب وأصحاب الهمم، والارتقاء بمهاراتهم تعليمياً ومهنياً، لتعزيز مشاركتهم في تحقيق مستهدفات القطاع غير الربحي في إطار رؤية 2030. ختامًا، المبادرات غير الربحية، بما فيها مشروعات مثل متحف "آسان"، إنما تؤكد أن الحفاظ على التراث ضرورة لبقاء الروح الإنسانية مشرقة في وجه رياح التغيير، وبها يصير الوفاء للماضي بذرةً صالحةً في تربة المستقبل!.