×
محافظة الحائط

أساطير من نوع جديد: الذكاء الاصطناعي الحلم الجديد للفقراء والطامحين

صورة الخبر

هل عشت طفولتك في أحياء شعبية، أو في أماكن يطلقون عليها قاع المدينة؟ إذا كانت إجابتك “نعم”، لا بد أنك تتذكر ولو على شكل طيف صورة أطفال يركلون كرات مهترئة فوق أرض ترابية تملأها الحفر، يلهثون وراء حلم اسمه “كرة القدم”. وهناك احتمال أنك كنت واحدا من بين هؤلاء الأطفال الذين يطاردون الحلم، لا لأنهم يعرفون التكتيك أو يريدون الفوز بكأس العالم، بل لأن الأساطير التي تابعوها على شاشة التلفاز قالت لهم “النجومية تعني المال. المال يعني الطريق للخلاص.” دييغو مارادونا، رونالدينيو، محمد صلاح، هؤلاء رموز لقصة تبدو سهلة: لاعب فقير، موهوب، وصل إلى قمة العالم. لكن ما لم نلاحظه، نحن الطاعنين في السن، والذين تجاوزهم الزمن، أن هذه القصة تتبدّل بهدوء دون أن نلاحظ ذلك. لم تعد الأقدام المدربة وحدها طريقًا للثروة. أصبح الدماغ المُدرّب على كتابة الشيفرات البرمجية، والذي يجيد التعامل مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي، هو اللاعب الحقيقي في عصرنا. خذ مثالًا بسيطًا على ذلك: كيفين دي بروين، أحد ألمع نجوم الدوري الإنجليزي الممتاز، يتقاضى أعلى راتب في البريميير ليغ، حوالي 400 ألف جنيه إسترليني في الأسبوع (20 مليون دولار في العام).. رقم صادم خاصة عندما يسمعه أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة وقاع المدينة، الذين لا يعرفون شيئًا عن الأرقام الفلكية إلا في أحلامهم. لكن هذا الرقم، في اقتصاد وادي السيليكون، يبدو تافها وأشبه بـ”الحد الأدنى للأجور” التي يتلقاها روّاد التكنولوجيا الرقمية. ساندر بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة غوغل، يتقاضى 226 مليون دولار سنويًا. ساتيا ناديلا من مايكروسوفت يحصل على أكثر من 54 مليون دولار. وإيلون ماسك؟ لا يحتاج إلى راتب رسمي، لأن الأرقام التي ترتبط باسمه تبدأ غالبًا بـ”مليار”. هذه الفجوة الصارخة بين نجوم الكرة ونجوم التكنولوجيا تعكس تحوّلًا عميقًا؛ فبينما لا تزال كرة القدم تحتفي بالمهارة البدنية، أصبحت الأسواق تُكافئ بشكل متزايد أصحاب المهارات الذهنية الفائقة، خصوصًا من يقتحمون عالم الذكاء الاصطناعي. مارك زوكربيرغ، الذي حاول سابقًا أن يجعل من “ميتافيرس” عالَمًا جديدًا، قرر أن يعود إلى الصراع الحقيقي حيث تُصنع الثروات والتوجهات؛ الذكاء الاصطناعي التوليدي. لم يتردد زوكربيرغ في إنفاق 14 مليار دولار للاستحواذ على حصة في شركة “سكيل إيه آي”، ولجذب العقول النادرة من منافسيه، عرض مكافآت ورواتب فردية تجاوزت 100 مليون دولار على موظفين في “أوبن إيه آي”، وهي ظاهرة طالما مورست في السابق، وكان يطلق عليها اسم “اصطياد العقول”، ولكن ما اختلف اليوم هو الأرقام الفلكية المعروضة لإغراء هذه العقول. بعضهم قبل العرض. كما قبل ألكسندر وانغ، الرئيس التنفيذي لسكيل إيه آي، دعوة مارك للانضمام إلى ركب “الذكاء الخارق”. اليوم لم تعد البطولات تُحسم في الملاعب، بل في المختبرات والمكاتب المغلقة المحاطة بشاشات وأكواد. لكن هذه التحركات الضخمة أثارت انتقادات حادة. المدون زفي موشوفيتز وصف الأمر بأنه شكل من “الارتزاق”، حيث لا أحد يرغب في العمل من أجل “هذه الشركات ومنتجاتها” إلا مقابل رواتب فلكية. إنها سوق مواهب تُدار بأسلوب المزاد العلني، لكنها تعكس أيضًا قلقًا داخليًا في ميتا من كونها تأخرت في سباق الذكاء الاصطناعي التوليدي. ذلك القلق كان مبررًا. نموذج “لاما 4” الذي أطلقته ميتا فشل في إقناع الخبراء والمستخدمين، وتراجع خلف معظم النماذج المنافسة، بل حتى خلف نسخته السابقة “لاما 3” في بعض المقاييس. ومع ذلك، يواصل زوكربيرغ ضخ الأموال وإنشاء فرق جديدة لتطوير ما يسميه “الذكاء الخارق”، وربما استبدال وكالات الإعلان بالكامل بخوارزميات ذكية تولّد الإعلانات وتحلل الجمهور وتُدير الحملات دون حاجة إلى البشر. لكن بين سطور هذه المغامرات التكنولوجية تختفي مفارقة لا يُمكن إنكارها؛ هؤلاء الذين يتقاضون عشرات ومئات الملايين ليسوا نجوما معروفين للعامة، لا يحملون القمصان المرقّمة، ولا يوقعون على كرات، ولا يتهافت الصحافيون خلفهم في المطارات. إنهم ليسوا مصدر إلهام لأطفال الأحياء الفقيرة الذين لم يسمعوا يومًا باسم أندري كارباتي أو يان ليكون. إنهم يعملون بهدوء، ويجنون الثروات بلا ضجيج. فهل نحن أمام تحوّل ثقافي أيضًا؟ هل ستبدأ مدارس الأطفال في بلدان الجنوب تُعلق صور مهندسي الذكاء الاصطناعي على الحائط بدل صور ميسي ونيمار؟ ليس بعد. ولكن التحول بدأ. في ظل هذا المشهد لا يبدو غريبًا أن ترتفع قيمة أسهم ميتا رغم كل علامات القلق في وول ستريت. المستثمرون، وإن أبدوا تخوفًا من “نفقات غير مضبوطة”، لا يزالون يحلمون بأن يكون زوكربيرغ هو من سيفتح لهم بوابة الربح القادم. وإن تأخر الذكاء الاصطناعي العام أو “الخارق”، فإن الرهان عليه لم يتغير. الجميع يستعد لما بعد المباراة.. لميدان جديد، لا تُحسم فيه الأهداف بالأقدام بل بالأسطر البرمجية. لقد تغير مقياس الأسطورة، ولم يعد الطريق إلى المجد يبدأ من العشب الأخضر، بل من سطر أسود في نافذة محرر الأكواد.