×
محافظة الدرعية

نحن، حين بدأ التاريخ

صورة الخبر

في مدن العالم، تُروى الحكاية كاستراتيجية بقاء، لا كأرشيف ماضٍ. في بريطانيا، تُدرَّس مقاومة لندن للقصف في المدارس، وتُعرض في المتاحف. في فرنسا، الثورة ليست ذكرى، بل نمط حياة. في روما، تهمس الأعمدة باسم الإمبراطورية، وفي الصين، يقف السور العظيم لا ليحجب، بل ليُذكّر بأن السيادة تُبنى بالحجارة كما تُبنى بالكلمات. وفي مصر، الأهرامات لا تُروى كأطلال، بل كبيان خالد أن هذه الأرض عرفت المعمار والعقيدة قبل أن يُكتب التاريخ الحديث. وحين يقف السائح أمام عجائب الدنيا السبع – من حدائق بابل إلى تمثال رودس – يدرك أن العالم لا يُدار بالاقتصاد فقط، بل بالسرد. لأن الرواية هي ما يمنح المكان معناه، والزمن رسالته، والرمز سلطته. وفي المملكة العربية السعودية، نملك ما هو أعمق. هنا، وفقًا لإرثنا الديني الراسخ، التقيا آدم وحواء، وسار إبراهيم وابنه، وارتفع أول بيت وُضع للناس. هنا نزل الوحي، وسُطّرت وثيقة المدينة كأول دستور مواطنة، وتحوّلت مكة إلى قبلة، والمدينة إلى عاصمة، والدين إلى دولة. على هذه الأرض، صمد بلال وهو يردد “أحد، أحد” في وجه الطغيان، لا كشعار، بل كبداية لمعنى الكرامة. هنا مرّ موسى، وبُعث محمد ﷺ، ونُسجت خيوط الرسالات الكبرى. في غزوة تبوك، لم يقع قتال، لكن الدولة خرجت لتُعلن قدرتها، وترسي فكرة الردع قبل الحرب. في السعي بين الصفا والمروة، مشهد لأم تبني خطة تحت الضغط. وفي أسطوانة الوفود، تأسست نواة الدبلوماسية الإسلامية. وفي خطط خالد بن الوليد، وُضعت بذور فنون المناورة التي تُدرّس اليوم في المعاهد العسكرية. نحن لا نروي تاريخ بطولات فقط، بل جذور مفاهيم، وقواعد بناء، وصناعة قرار. وفي سرديتنا الوطنية، لا يمكن تجاوز لحظة التوحيد. من الدرعية خرجت الدولة السعودية الأولى بفكرة الوحدة في زمن الانقسام، ثم الدولة الثانية التي أبقت الفكرة حيّة رغم التحديات. حتى جاء عبدالعزيز، فمدّ اليد من الرياض إلى البحر، وجمع الشتات في راية، وأعلن قيام المملكة، لا ككيان سياسي فقط، بل كوثيقة وجود ترتكز على الدين والكرامة والقرار. لكل منطقة قصة، ولكل قصة أهل يروونها، لكن التوحيد جعلها حكاية واحدة بهوية واحدة. ومن الرموز التي تستحق التأمل، نافورة جدة، التي ارتبطت في الذاكرة الشعبية بمواقف الملك فيصل أثناء حرب أكتوبر، كناية عن ضخ النفط موقفًا لا مادة. ورغم اختلاف الروايات، يظل الأثر الرمزي حاضرًا: أن البنية التحتية قادرة على حمل الرسالة، متى ما صيغت بسرد مؤسسي دقيق. فالرواية لا يجب أن تُترك للأساطير، بل تُبنى من الحقائق، وتُروى بلغة الدولة، لا عناوين الإنترنت. ويتجلّى غياب المحتوى الوطني المؤسسي في المناطق الإدارية الثلاث عشرة للمملكة، حيث تنتشر آلاف المواقع الأثرية، وقصص الأنبياء، وسير الطغاة والأولياء، ومواقع ميلاد البترول، وذاكرة الفتوحات والتوحيد، ومشاهد الرؤية الحديثة. من العلا إلى نجران، ومن تبوك إلى جازان، من مكة إلى حائل، لكل شبر حكاية، ولكل حكاية قيمة تُروى، لا لتُحفظ فقط، بل لتُفهم وتُبنى بها هوية الإنسان. إن هذه الرواية ليست مسؤولية المرشدين وحدهم، بل مسؤولية كل مواطن يعيش على هذه الأرض. فهي ليست مهمة مهنية أو دعائية، بل واجب وطني ووعي حضاري. من لقاء آدم، إلى خطوات هاجر، إلى بناء الكعبة، إلى وثيقة المدينة، إلى تأسيس الدولة، وصولًا إلى رؤية 2030، لم نكن أمة تمر على التاريخ، بل كنا جزءًا من صناعته. هذه الرواية يجب أن تُزرع في عقل الطفل، ولسان المواطن، وسلوك المسؤول. يجب أن تُوثّق في المناهج، وتُفعّل في الإعلام، وتُستثمر في المتاحف، لأنها ليست سردًا تذكاريًا، بل خريطة طريق. وتمنحنا رؤية المملكة 2030 الإطار الأوضح. ففي برنامج “جودة الحياة”، تُوضع الهوية الوطنية في قلب التنمية الثقافية. وفي “رؤية السياحة”، يُخطط لاستقبال أكثر من 100 مليون زائر، ما يتطلب رواية موحدة وشاملة لكل المواقع. وفي التعليم، تُوجّه الجهود لربط المناهج بالهوية والواقع، لكن هذا لا يكتمل ما لم يُبَنَ محتوى وطني مؤسسي دقيق، يشمل المواقع، والمعالم، والقصص، والرموز. واليوم، ومع تسارع الأحداث، باتت الذاكرة مضغوطة، والمراحل تتبدل بوتيرة لا تُمهلنا حتى نلتفت: لا نكاد ندري كيف كنا، ولا نملك متسعًا لنتأمل كيف أصبحنا. والحمد لله على كل هذه النعم، لكن هذه التحولات العظيمة تحتاج إلى عقل يحفظها، ولسان يرويها، ومؤسسة تؤطرها، لأن من لا يعرف من أين بدأ… لن يعرف إلى أين يتجه. فالتوثيق لم يعد رفاهًا معرفيًا، بل ضرورة وطنية لبناء الإنسان السعودي الذي يفهم موقع بلاده في قصة العالم، ويعي دوره في استكمال فصولها القادمة. نحن لا نتحدث عن سرد ماضٍ، بل عن صناعة مستقبل. فمن لا يربط الرواية بالقرار، لا يستطيع حماية الذاكرة، ولا تثبيت هوية أمةٍ كانت هنا حين بدأ التاريخ.