لا تزال التراشقات مستمرة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة. قد تكون هدأت الفترة الماضية بعد تجمد المفاوضات وتجاهل الحديث عن العودة إليها، لكن الأزمة عادت إلى دائرة الضوء قبل أيام، بعد أن أعلن رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد عن افتتاح السد رسميا في سبتمبر المقبل، ودعا دولتي المصب، مصر والسودان، إلى حضور حفل الافتتاح، زاعما أن السد لم يؤثر على البلدين أو ينقص المياه التي تصل إليهما. استقبل السودان الدعوة بصمت لظروف تمر بها البلاد المنشغلة بوقف حرب مستعرة، واستقبلت مصر الدعوة بتجاهل في البداية، لأنها تحمل تناقضا، فأديس أبابا التي شيدت سدا عملاقا وضربت عرض الحائط بالمفاوضات الرامية لتوقيع اتفاق ينظم آليات ملء السد وتشغيله، دعت القاهرة للاحتفال معها بإنجازه حسب رؤيتها، ثم تحدث وزير الري والموارد المائية المصري هاني سويلم في أحد البرامج، وطرح سؤالا، مفاده: إذا كانت إثيوبيا صادقة في رؤيتها عليها أن توقع اتفاقا ينص على عدم تأثر مصر بسد النهضة؟ مؤكدا وجود آثار كبيرة حاليا وفي المستقبل. لم تظهر آثار مؤلمة أو يشعر مواطنون بمعاناة حقيقية في الوقت الراهن، لأن مصر اتخذت إجراءات أدت إلى خفض مستوى التداعيات السلبية، مثل مشروعات تبطين الترع والمصارف، والشروع في تحلية مياه البحر، وزيادة عمليات إعادة تدوير المياه، وحض المواطنين على ترشيد الاستهلاك، وسحب كميات من المياه من بحيرة السد العالي في جنوب مصر، وتمثل احتياطيا إستراتيجيا، وكلها كبدت ميزانية الدولة مبالغ باهظة، علاوة على وجود فيضان فوق المتوسط خلال الأعوام القليلة الماضية، وعدم استهلاك السودان حصته كاملة للانشغال بالحرب وإهمال الزراعة وصيانة السدود. ليس لإثيوبيا منّة أو مجاملة أو ترويض في هذه المحددات، يجعل لها اليد الطولى في خفض الآثار القاتمة الناجمة عن حجز سد النهضة نحو 60 مليار متر مربع من المياه حتى الآن، سوف تصل إلى 74 مليار متر مربع، تعد السعة الكاملة للسد وفقا لما هو معلن من معلومات، وكانت كميات المياه المحتجزة تصل إلى دولتي المصب قبل بناء سد النهضة، وهي خسارة مضاعفة واجهتها مصر، وقد لا تتحدث عنها كثيرا، لأنها خارج حصتها التاريخية، وتقدر بـ55.5 مليار متر مكعب سنويا. تخشى مصر من المستقبل، إذ يمكن أن تواجه الهضبة الإثيوبية جفافا أو هطولا ضعيفا أو أقل من المتوسط في منسوب الأمطار، وهو خطر داهم فكرت فيه القاهرة عندما انخرطت في جولات عديدة من المفاوضات مع أديس أبابا بلا جدوى، ولم تقدم إثيوبيا ما يطمئن مصر ويؤكد استعدادها لسد العجز الذي قد تواجهه في المستقبل، ما يجعل من حديث رئيس الوزراء آبي أحمد للاستهلاك المحلي والإقليمي والدولي، ووضع الكرة في ملعب مصر بمفردها والإصرار على تصويرها دولة ترفض مشروعات التنمية الطموحة في إثيوبيا، وكأنها تريد حرمان شعبها منها. تفهم القاهرة رسائل أديس أبابا المتلاحقة، وجميعها لها مآرب سياسية، هدفها التنصل من التوقيع على اتفاق مُلزم، وتعزيز فكرة أن السد له خصوصية وطنية، وإنشاء السدود على الأنهار الدولية لا يجب أن يخضع لتوافقات الدول المتشاطئة، بل إلى إرادة محلية كي يتسنى لإثيوبيا والدول المؤيدة لموقفها أو المتعاطفة مع تصرفاتها بناء سدود في غياب الالتزام بضوابط القانون الدولي، وهو ما ترفضه مصر، وتريد إقرارا إثيوبيا ممهورا بتوقيعها إذا كان كلامها صحيحا. ما يشغل بال الحكومة في أديس أبابا حاضر يُظهر قدرتها على التلاعب بالمفاوضات، وقدرتها على تحويل سد النهضة من فكرة راودت الكثير من القادة السابقين إلى واقع، ومن حلم إلى صورة براقة تعكس قوة الإرادة، فهو مشروع وطني تنموي يحمل مجموعة من الأهداف السياسية، التي تحفظ لإثيوبيا مكانتها، وورقة تمكنها من الضغط على القاهرة في قضايا إقليمية مهمة، فهناك إشارة واضحة من مسؤولين في أديس أبابا تعبّر عن رغبة في الحصول على نافذة على البحر الأحمر، ولا تريد من القاهرة أن تقف عقبة أمامها، مقابل تقديم تنازلات في أزمة سد النهضة. وما يشغل مصر هو المستقبل بالنسبة إلى تأثير السد على كميات المياه التي تصل إليها، وعدم المساس بالاتفاقيات التاريخية والحصص التي أقرتها، حيث تريد إثيوبيا، ودول أخرى في حوض النيل، تغيير هذه المعادلة، وسد النهضة مقدمة يمكن أن تجر خلفها ملفات لا تقل حساسية في مجال المياه، كما أن كارثة كبيرة سوف تحل بمصر عندما تنخفض الأمطار ويأتي الفيضان شحيحا، وقتها تتعرض البلاد لمشاكل عميقة في الحصول على المياه، لأنها من الدول التي تعاني نقصا في المياه، وكل طرق العلاج لن تمكنها من سد العجز المتوقع، في وقت لم تبد فيه إثيوبيا تجاوبا لمناقشة هذا الشبح، وتجاهلها يزيد الهواجس المصرية في نوايا أديس أبابا. بدأت إثيوبيا مشروع سد النهضة بطريقة ليّنة، وقدمت تطمينات شكلية إلى مصر ولعبت على خلافاتها مع السودان فترة، وعندما تحسنت العلاقات بين القاهرة والخرطوم، كشفت أديس أبابا عن وجه آخر فاضح من المراوغة، إلى أن ارتفع السد عاليا وأوشك على الاكتمال في سبتمبر المقبل، ومهما كانت الشكوك الفنية التي تحيط به وعدم القدرة على تشغيل كل التوربينات حتى موعد الافتتاح الرسمي، فهي لا تكفي لتأكيد فشل إثيوبيا أو عجزها عن الإدارة، لأن جزءا من أهدافه السياسية تحقق فعلا. بات تأثر مصر، حاليا ومستقبلا، غير مشكوك فيه، وإثيوبيا تعلم ذلك وتحاول القفز عليه من خلال إظهار مرونة لفظية في منع وقوع الضرر، وشكلية في الدعوة للمشاركة في الاحتفال، للإيحاء بحرصها على العلاقات مع مصر، وأن الأخيرة تتعنت بلا مبررات، أو هكذا تريد أديس أبابا حفر صورة في ذهن قوى إقليمية ودولية، للتشكيك في الرؤية المصرية ومنع حصولها على تأييد خارجي، وقطع الطريق على جدواها سياسيا، وتأكيد أن إثيوبيا تواصل تصرفاتها لمنع تقديم تنازلات ملموسة. استفادت إثيوبيا من التحديات الكثيفة التي تحيط بمصر والسودان، وحققت أهدافها من وراء تشييد سد النهضة، وتبدو كأنها حققت جانبا من رؤية مصر في ما يتعلق بإطالة سنوات الملء، حيث طالبت القاهرة بسبع سنوات، وهي المدة التي قامت فيها إثيوبيا بملء السد، من دون التوقيع على اتفاق بهذا المعنى، وهي لا تعني تحلّيا بحكمة أو تجاوبا مع مطلب مصر، لكنه توافق مع ظروف طبيعية فرضت التأخير، وأوضاع فنية غير مواتية لتقصير مدة الملء، وفي الحالتين هي إشارة وصلت إلى مصر، وفسرت معانيها، وتدفعها نحو مواصلة الشكوك في الخطاب الإثيوبي، ما لم يصطحب معه إجراءات موثقة تحول المضمون النظري إلى عملي ومُلزم.