×
محافظة العديد

هل تحافظ أميركا على مجدها العلمي؟

صورة الخبر

لقد قضيتُ جزءاً كبيراً من حياتي الطويلة في دراسة تاريخ الكون ومحاولة فهمه. وخلال رحلتي، كنتُ أتلقى تذكيراتٍ باستمرار بأن العلم عالميٌ في جوهره: العلم لا يعرف حدوداً، وقد تأتي الاكتشافات العظيمة التالية من كانساس أو كوسوفو أو كيوتو. ومع ذلك، وبصفتي أميركياً وطنياً، أفخر بأن الكثير من الأبحاث العلمية يحمل ختم «صُنع في الولايات المتحدة الأميركية». وبمقاييس عديدة، هيمنت بلادي على جميع فروع الأنشطة العلمية منذ الحرب العالمية الثانية: فمن حيث عدد جوائز نوبل في العلوم، حصلت أميركا على ما يقارب 300 جائزة، بينما تأتي بريطانيا في المرتبة الثانية بحوالي ثلث هذا العدد، كما حصلت أميركا على أكبر عدد من براءات الاختراع العلمية، مع اقتراب الصين سريعاً من المنافسة، وكذلك أخرجت للعالم أكبر عدد من الاكتشافات الكبرى البارزة. لقد سار الأميركيون على سطح القمر وأحضروا عينات منه لدراستها. لقد هزمنا شلل الأطفال وفرضنا السيطرة على فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز). وإذا تأملنا في الفرع الصغير من فروع العلم في تخصصي كفلكي، نجد بعض الأمور التي تعلمناها عن نظامنا الشمسي والكون خلال العقود الستة من مسيرتي العلمية كما يلي: - نعلم أن الكون بدأ قبل بلايين السنين في حالة من الحرارة الشديدة والكثافة الهائلة، ونعلم أن عمره نحو 13.8 مليار سنة. - نعلم أن الأرض موجودة منذ ثلث هذه الفترة فقط، ونعلم كم من الوقت سيمر قبل أن تبتلعها الشمس المحتضرة (ما بين 4 و5 مليارات سنة من الآن). - نعلم أن المادة العادية، التي تُكوّن البشر والكواكب والنجوم، تشكل حوالي 5% فقط من الكتلة الكلية للكون. - نعلم ما الذي يُغذي النجوم، وأن بعض النجوم تنهي حياتها في لمح البصر عبر انفجارات مذهلة. والمثال على هذا هو سديم السرطان، والذي هو بقايا نجم انفجر قبل 1000 عام، كما ظهر في صورة بالأشعة تحت الحمراء التقطها تلسكوب جيمس ويب الفضائي. نعلم أن الثقوب السوداء حقيقية، بعضها ناتج عن نجوم ميتة، وبعضها الآخر، الذي يفوق كتلة الشمس بمليون مرة أو أكثر، يتربع في مراكز المجرّات، بما فيها مجرتنا، درب التبانة. وأن البُقع الأرجوانية التي تُظهرها الصور توضح وجود ثقبين أسودين في مجرة «توبسي تيرفي»، التي تبعد عنّا حوالي 13 مليون سنة ضوئية. - نعلم أن النجوم النيوترونية شائعة الوجود، وهي نجوم بالغة الكثافة لدرجة أن حبّةً بحجم حبة السمسم منها تزن أكثر من بضعة آلاف من الأفيال. والتقطت صورة الأشعة السينية المتوفرة حالياً بوساطة مهمة «تشاندرا» التابعة لوكالة «ناسا»، حيث تشير النقاط الملونة الكثيرة إلى نجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء محتملة في مجرة بعيدة تشبه مجرتنا. - نعلم أن بعض هذه النجوم النيوترونية تدور بسرعة تماثل سرعة دوران محرك سيارة، وبانتظام يفوق أدق الساعات التي نستطيع صنعها - نعلم كيف تتكون جميع العناصر الكيميائية مثل الهيليوم في الدقائق الأولى من عمر الكون، والكربون داخل نجوم، مثل الشمس، والذهب في الانفجارات النجمية أو تصادمات النجوم النيوترونية. - لقد تجول سفراؤنا الروبوتيون عبر سطح المريخ الأحمر الصدئ، ورسمنا خرائط لأخاديده العميقة وبراكينه الهائلة. وتُظهر الصور أحد الأودية في المريخ، وهو أطول من الولايات المتحدة القارية، ويُعرف باسم «فاليس مارينيريس». - لقد زارت روبوتاتنا الأميركية كل كوكب في مجموعتنا الشمسية، والعديد من أقمارها المتعددة. كما اكتشفنا آلاف الكواكب التي تدور حول نجوم أخرى. ويمكن وصف هذه المعارف بأنها مختومة ب«صُنع في الولايات المتحدة الأميركية». هذا هو إرثنا الذي تحقق بفضل التمويل الحكومي الفيدرالي. ولكن في غضون بضعة أشهر، قوضت إدارة ترامب الهيمنة الأميركية في مجال العلم، والتي بُنيت على مدى عقود طويلة. وبات الآن التمويل الفيدرالي الذي جعل من أميركا رائدةَ العالم في العلوم مهدداً بتخفيضات هائلة، ليس في مجالات الفلك وعلوم الفضاء فحسب، بل في البحوث الأساسية في الطاقة والكيمياء وعلوم الحاسوب والطب الوقائي أيضاً.لننظر، على سبيل المثال، إلى الميزانية المقترحة لمؤسسة العلوم الوطنية، الوكالة الفيدرالية التي مولت العديد من المساهمات الأميركية في علم الفلك، بما يشمل أبحاثي، فضلًا عن أبحاث الفيزياء والكيمياء وعلوم الحاسوب. وفي العام الماضي، دعمت المؤسسة أكثر من 330 ألف عالم وطالب ومعلم، وفي العام المقبل، ستخصص الميزانية 90 ألفاً فقط. وسيُسحب بساط التمويل من تحت أقدام ما يقرب من ربع مليون عالم ومهندس أميركيين مستقبليين. لكن، لماذا؟ هل العلم مُكلف للغاية؟ لقد شاركتُ في بعض الاكتشافات المذكورة، وكانت التكلفة الإجمالية لجميع أبحاثي، منذ مقالتي الأولى عام 1961 حتى الآن، بالنسبة لدافع الضرائب الأميركي العادي أقل من سنت واحد. أما ميزانية المؤسسة الوطنية للعلوم بأكملها لجميع الأبحاث في علم الفلك فكلفت كل أميركي نحو دولار واحد سنوياً. هل يشوب العملَ العلمي الكثير من الهدر والاحتيال، كما يقول البعض حالياً في واشنطن؟ نعم، بعض التجارب تفشل، وقد فشلتُ أنا شخصياً في بعضها. لكننا نتعلم من أخطائنا، فالفشل لا يعني بالضرورة الهدر. أما الاتهامات بوجود احتيال واسع النطاق في الأوساط العلمية، فليست غير مُثبتة على الإطلاق فحسب، بل أيضاً غير منطقية. فعندما أحصل على تمويل من «ناسا»، أكون ملزماً بتقديم تقارير دقيقة حول كيفية صرفه، ويقوم المسؤولون في جامعتي و«ناسا» على حد سواء بمراجعة تلك الحسابات بدقة شديدة. وإذا كان تقليص ميزانية البحث العلمي وغيره من الخدمات الفيدرالية مجرد نزوة، فهي نزوة مكلفة للغاية. لقد كانت الاستثمارات في البحث العلمي الأساسي من أكثر المصروفات الحكومية كفاءةً وجدوى في حياتي الشخصية. ولم تكن هذه الاستثمارات سبباً في ابتكار رقائق أسرع للحواسيب، وتوقعات أفضل لحالة الطقس، وبطاريات أرخص، ولقاحات أكثر فاعلية فحسب، بل إن العلماء في الجامعات والكليات في جميع أنحاء البلاد هم مَن درّب العلماء والمهندسين الذين أسّسوا لاحقاً شركات توفّر اليوم ملايين الوظائف. وفي آخر رسالة كتبها، أشار توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، والكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال، والرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية، إلى قيمة «نور العلم» في تحرير الأشخاص من الجهل والخرافة، وفتح الطريق أمام الحقوق، والحريات، والحكم الذاتي. ومهما كانت ، حقيقيةً كانت أم مجرد ذرائع، لإطفاء هذا النور، فإننا نخاطر بالتخلي عن قيادة مشروع ذي قيمة مؤكدة لصحتنا وازدهارنا وشعورنا بالدهشة من عجائب العالم الطبيعي. بروس بارتريدج* *عالم فلك أميركي بارز ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»