pbthdw@gmail.com بنظرك هل يمكن لرسالة وحدة أن تُصيب ملايين العقول دفعة واحدة؟ في بدايات الإعلام، كانت الإجابة: نعم. كانت الكلمة تُطلق كرصاصة، تُخترق الوعي بلا مقاومة من المتلقي، ويُفترض أن الجمهور يتلقاها كما هي، دون شك أو تحليل. لكن الزمن تغير، وتغيّر معه المتلقي. لايوجد شي ثابت، حيث إن المتلقي أصبح أكثر وعياً،وقدرة على أنه يصنع تجربته الإعلامية بنفسه. إن فهم النظريات التي تقوم عليها وسائل الإعلام يجعلنا قادرين على معرفة كيفية تأثيرها علينا، وكيف نُعيد تشكيلها وفقاً لوعينا الحالي. خلال أكثر من نصف قرن من البحث والدراسة، ظهرت العديد من نظريات الإعلام التي حاولت أن تُفسر العلاقة بين المُرسِل والمتلقي، وتأثير المحتوى الإعلامي على السلوك والفكر. من أهم هذه النظريات هي نظرية الرصاصة السحرية أو (نظرية الإبرة تحت الجلد)، التي نشأت في بدايات القرن العشرين. هذه النظرية تفترض أن الإعلام يؤثر بشكل مباشر وقوي على المتلقي، وكأن رسالة الإعلام هي رصاصة تُطلق بشكل مباشر في عقل الجمهور، فتحدث تأثير فوري ومباشر أيضا. ذلك الوقت، بدت هذه النظرية منطقية، خاصة مع ظهور وسائل الإعلام الجديدة مثل الراديو والتلفزيون آن ذاك، كما أنها تغفل حقيقة أن الإنسان ليس وعاءً فارغًا يُسكب فيه المحتوى بلا مقاومة أو وعي. على الجانب الآخر، جاءت نظرية الاستخدامات والإشباعات لتقدم لنا رؤية أكثر نضجاً. هذه النظرية ترى أن المتلقي ليس مستهلكاً سلبياً، بل تحول من مجرد متلقي إلى مشارك وفاعل. حيث أصبح الناس يختارون ما يشاهدونه أو يستمعون إليه بناءً على احتياجاتهم النفسية والاجتماعية. فمثلاً، قد يلجأ البعض إلى الأخبار ليبقى على اطلاع فقط، بينما يبحث آخرون عن الترفيه لتخفيف الضغوط اليومية. بهذه النظرة، يصبح الإعلام أداة يلعب بها المتلقي دوراً فعالًا في تشكيل تجربته الإعلامية، حيث أصبح المتلقي هو الذي يحدد مايرى ويسمع "هنا اتحدث بشكل عام بعيدًا عن حديث التعرض للإعلانات" مثال: يمكن للمستخدم أن يختار متابعة صفحات ومجموعات تعكس اهتماماته وقيمه، مثل متابعة قنوات تعليمية، أو صفحات ثقافية، أو محتوى ترفيهي. هنا يتجلى دور المتلقي في تحديد ما يناسبه وفقاً لرغباته. التغيرات في المجتمع وتقدم وسائل التواصل الاجتماعي جعلت هذه النظريات تتطور أكثر، حيث صار الجمهور يمتلك أدوات تفاعلية تمكنه من الرد والمشاركة، وليس مجرد استقبال سلبي من طرف واحد. وهذا يقودنا إلى ما يُعرف بنظرية النفعية المتبادلة التي تؤكد على العلاقة الديناميكية بين الإعلام والمتلقي. بعد ظهور هذه النظريتين، وبعدما أصبحنا نعيشها فعلًا، يُمكننا القول إن نظرية الرصاصة السحرية لم تعد كافية لتفسير تأثير الإعلام اليوم. حيث إنها تلاشت تقريبًا وأصبحت من الماضي من وجهة نظري. الوعي المتزايد لدى الناس، وتنوع المصادر، وظهور منصات التواصل الاجتماعي، كلها عوامل تجعل التأثير الإعلامي أكثر تعقيد من الماضي. فالمتلقي اليوم هو ليس مجرد هدف يُطلق عليه رصاصة، بل أصبح واعٍ، قادر على اختيار ما يُناسبه، ويمتلك القدرة على الرد والمشاركة في الحوار المجتمعي. على سبيل المثال: خلال أزمة فيروس كورونا، انتشرت العديد من المعلومات والأخبار عبر منصات التواصل. الجمهور أصبح يراجع ويبحث في المصادر المختلفة، ويتفاعل مع المحتوى عبر تعليقات، مشاركات، وحتى نقد. ولم يعد الإعلام يفرض رسائل ثابتة دون نقاش. لم تعُد "الرصاصة" الإعلامية قادرة على إصابة المستهدف كما في السابق. تلاشي نظرية الرصاصة يعكس أن الإعلام لم يعد يمارس تأثيره من الأعلى إلى الأسفل، بل أصبح ساحة مفتوحة للحوار وتبادل التأثيرات. المتلقي اليوم ليس هدفًا ثابتًا، بل هو لاعب أساسي في التجربة الإعلامية. يختار، يشكك، يشارك، ويعيد تشكيل الرسالة بما يتوافق مع وعيه واهتماماته. ولعل هذا التحوّل هو ما يجعل دراسة نظريات الإعلام اليوم، ليست مجرد مادة أكاديمية، بل أداة ضرورية لفهم أنفسنا... وفهم العالم من حولنا.