×
محافظة الدرعية

بين العاصوف وحي سمحان - د.عبدالعزيز النخيلان

صورة الخبر

في مساء هادئ حملت فيه الذاكرة خطواتنا قبل أجسادنا، اتجهت مع مجموعة من الأصدقاء إلى حي سمحان في الدرعية. حيٌ أعيد بناؤه لا ليكون مجرد مكان، بل ليكون بوابة زمن؛ نافذة تطل على السبعينات والثمانينات، تلك الحقبة التي ترسخت في وجدان جيل كامل. لم تكن الزيارة عابرة، بل كانت عودة إلى زمنٍ نعرفه جيدًا، زمنٍ لا يزال حاضرًا في القلب مهما ابتعدت بنا السنوات. بيوت بواجهات بسيطة، شوارع مستقيمة، وأشجار نخيل تتناثر دون تنسيق هندسي، لكنها تحمل روح الناس الذين سكنوا هنا. ومع مشروع بوابة الدرعية أعيد ترميم سمحان بإخلاص؛ ليس ليصبح نسخة متحفية من الماضي، بل ليحافظ على صدقه، على تفاصيله التي تُشبه الذاكرة أكثر مما تُشبه الصورة. كنت أمشي بين المقاهي وأسمع وقع خطواتي على الأرض وكأنني أسمع خطواتي القديمة. خطوات طفل يركض بلا سبب، مراهق يحاول فهم العالم، وشاب يشاهد وطنه يتغير أمام عينيه. المقاهي التي تصدح منها ضحكات الرجال ونقاشاتهم، الأرصفة العريضة التي كنا نُجلس عليها أحلام الطفولة، كبائن الهاتف التي كنا نصطف أمامها ننتظر أن ينتهي المتحدث قبلنا، وحتى السيارات القديمة التي تجوب المكان وكأنها خرجت للتو من ذاكرة الحي نفسه. كنا نسير ونتذكر. جيلُ السبعينات والثمانينات.. ذلك الجيل الذي عاش مرحلة التحول الكبرى؛ عاصر البساطة والشقاء، ثم رأى بعيونه تشكل المدن، تغير الذوق، انفتاح العالم، وتبدل شكل الحياة بأكملها. جيلٌ شهد التلفزيون الأبيض والأسود ثم الإنترنت.. الدكان الصغير ثم المولات.. رسائل البريد ثم الهواتف الذكية. كان حي سمحان في أساسه واحدًا من الأحياء السكنية ذات الامتداد التاريخي والثقافي للدرعية، والتي تطورت مع بدايات تشكل الرياض الحديثة في السبعينات والثمانينات. فللٌ بسيطة التصميم آنذاك، شوارع مستقيمة بلا تكلف، أحواش واسعة، ونخيلٌ يعرف أصحاب البيوت واحدًا واحدًا. ومع مشروع بوابة الدرعية تمت إعادة ترميم الحي لا ليُعاد تشكيله بطابع جديد، بل ليُعاد إليه ما كان عليه؛ التفاصيل كما هي، الروح كما هي، والشعور كما هو.. مكان لا يجمّل الماضي ولا يقلّده، بل يستحضره بصدق ليعود بك دون أن تشعر إلى دفء الماضي. حضر اسم «العاصوف» بين حديثنا كما حضرت روح المكان، ذلك المسلسل الذي لم يكن مجرد دراما، بل كان مرآة صقيلة أعادت إلينا صور تلك الفترة. العاصوف لم يحكِ الحياة اليومية فقط، بل اقترب من التحولات الفكرية والاجتماعية، من تأثير الأحداث السياسية، من ارتفاع الأسعار وتغير العادات، من الصراع بين القديم والجديد، من زمنٍ كنا نحاول فيه فهم العالم بينما كان العالم يحاول فهمنا. كنا نشاهد العاصوف وكأنه يأخذنا عبر الزمن إلى ذاكرة بعيدة نستحضرها وكأننا في ذات اللحظة. لا يسرد لنا التاريخ بجموده، بل يحرك دفء المشاعر.. يوقظ الروائح، الألوان، واللهجات.. يُظهر كيف كنا نفكر، كيف كنا نحلم، وكيف كنا نرى أنفسنا وسط كل هذا التغيير. كنت أردد في نفسي كلمات خلف الحربي التي صدحت بها مقدمة العاصوف بألحان ناصر الصالح وكأن راشد الماجد يغنيها في وجداني: الله يا وقت مضى لو هي بدينا ما يروح والله يا عمر انقضى بين الأماني والجروح هناك أزمنة لا تنتهي، لأنها لا تُقاس بالتاريخ، بل بما تركته في القلب. ولذلك، حين غادرنا سمحان.. لم نكن قد ابتعدنا عنه. كنا فقط نعود ونحن نحمل شيئًا منّا قد استيقظ من جديد. خرجت من سمحان وأنا أشعر أنني لم أزر حيًا.. بل زرت نفسي.