×
محافظة القطيف

التجارة في أحضان ديلمون

صورة الخبر

في واد ليس ببعيد عن مدن الشرقية تقف لتعجب عما كان بها ومنذ آلاف السنين من بيئة مختلفة. ولا زلنا نرى تلك المشاهد فيه وكأنها لوحة فنية سرمدية لفنان مبدع، وتكاد تقسم ان يوما ما كان بها أنهارا واشجارا وحياة نجهلها اليوم. الا اننا وبذات الوقت نذكر مملكة دلمون ذلك الاسم الحاضر في الألواح المسمارية من مكتباتها القديمة ومعابدها ومن دفاتر بابل فتبحث فيها لتجدها وبإشارات متكررة تتحدث عن مملكة دلمون الغنية، لتقف لوهلة وتتعجب فلا شيء منها بقي اليوم فأين ذهبت؟ فما لدينا من دليل ملموس حاليا على وجدوها بيننا من دور ومباني هو تقريبا لا شيء، ومجرد ذكر رومانسي كتب عنها في الكتب والألواح المسمارية القديمة. كما ان المكتشفات الحديثة التي اقرت بوجود هذه الحضارة بالمنطقة بيننا وقعت بخطى الحداثة فلا نكاد نرى منها شيء، ولعلي اسرد بعضا ما جاء عنها. لم تكن دلمون بالنسبة للبابليين مجرد محطة تجارية، بل كانت فضاءً تتشابك فيه الأسطورة بالتاريخ. وحين نتأمل هذا الحضور الواسع في النصوص المسمارية، ندرك أن دلمون لم تُذكر صدفة، ولم تظهر في الهوامش، بل جاءت في قلب الوثائق التي تحدد ملامح العلاقات السياسية والاقتصادية بين القوى القديمة. وهذا وحده يكشف أن دلمون، التي تشغل اليوم أرض الكويت والساحل الشرقي السعودي وقطر والبحرين، كانت ذات تأثير يتجاوز حجمها الجغرافي، وأن "جمالها" الذي تغنى به السومريون ليس جمالاً طبيعياً فقط، بل جمال الدور الذي لعبته في رسم ملامح التجارة العالمية في ذلك العصر. وقصتها بدأت نحو خمسة ألف عام ذكرت فيها أرض دلمون ووصفت بالألواح المسمارية بأنها "الأرض النقية"، و"أرض الحياة"التي لا يعرف فيها المرض ولا الموت". وتذكر دلمون بالألواح على أنها كيان سياسي له ملك، وموظفون، وبضائع تحمل أختاماً رسمية، وتدخل مراكبها موانئ الرافدين بالعراق وفق إجراءات محددة. ومن بين أهم ما ورد في هذه السجلات القديمة، قائمة بأسماء ملوك ديلمون. ومن اللافت للنظر أن النصوص البابلية تشير إلى إرسال هؤلاء الملوك هدايا إلى حكام أور، تتضمن اللؤلؤ، والتمور، والنحاس، وخشب الساج. كما تشير أيضا الى تزايد الحركة التجارية عبرها للنحاس القادم من مجان (عُمان حالياً) ومقاضاتهم رسوماً من السفن العابرة. من بين الألواح المسمارية التي تُعد ذات أهمية خاصة للتجارة البينية، تلك التي تُسجل أسماء موظفين يحملون لقب “رجل دلمون” أو “تاجر دلموني” وتشير هذه الألواح إلى طبقة من التجار المتخصصين منهم أيضا الذين كانوا يعملون بين ميناء دلمون وموانئ بابل وأور، ويديرون حركة السلع، يسجّلون الأسعار، ويشرفون على نقل النحاس والأخشاب والأحجار الكريمة. وكانت ارض ديلمون حينها تملك ثرواتها الخاصة بها كاللؤلؤ وكذلك أجود أنواع التمور. وقد ورد ذكر تمر الإخلاص في الألواح المسمارية وكانت تُذكر باعتبارها "فاكهة الأرض الطيبة". ومن اللافت أن بعض الألواح تشير إلى قيمة مالية عالية للتمور الدلمونية مقارنة بنظيراتها، ما يدل على جودة خاصة ربما تعود إلى خصوبة الواحا في الأحساء وفي القطيف. ولا يقتصر ذكر دلمون على النصوص الإدارية فقط، بل يظهرها أيضاً في النصوص الدينية، وخاصة تلك التي تتعلق بـمعبودهم الإله إنكي. تظهر دلمون كأرض مقدسة، مرتبطة بالمياه العذبة، وكان السومريين عبر ما عثر عليه من الواح ينظرون الى ديلمون باعتبارها "الأرض التي لا يموت فيها أحد". وترد نصوص في هذه الألواح لتتحدث عن طوفان ولعلها جزء من حديث آخر يذكرنا بقصة نبي الله نوح علية السلام، فقد جاء بالألواح المسمارية ما نصه وأحببت الختام بها: لا يظهر انكي أمامه ظهوراً مباشراً، بل يهمس له من خلف جدار من القصب، أيها الرجل من شوروپاك... اهجر بيتك...واجمع حياتك في سفينة...فالطوفان سيأتي... وسيغسل الأرض من جديد.", ولكامل قصة الطوفان السومرية مقال وحديث آخر.