في الأسبوع الماضي أقر مجلس الوزراء ميزانية المملكة التقديرية للعام القادم 2026، حيث بلغت الإيرادات المتوقعة نحو 1.147 تريليون ريال، فيما قدُرت إجمالي النفقات نحو 1.313 تريليون ريال، ليصل العجز المحتمل إلى ما يقارب 165.4 مليار ريال، وفي هذا المقال سأتطرق لقراءة شخصية عن تفسير ديناميكية العجز في سياق السياسة المالية التوسعية الحالية وارتباطها بالأهداف الاستراتيجية طويلة المدى. الميزانية المُعلنة التي تم إقرارها تركّز على مواصلة السياسة المالية التوسعية لدعم النمو الاقتصادي في المملكة، وتمثّل الإطار التنفيذي والانطلاقة الفعلية للمرحلة الثالثة من رؤية 2030، والتي تُعنى بتسريع وتيرة تنفيذ مشاريع الرؤية الاستراتيجية وتعزيز كفاءة وفاعلية الإنفاق الحكومي، كما تُعزز الميزانية الاستثمار في رأس المال البشري وبناء القدرات، إلى جانب تحفيز نظام الابتكار ورفع مستوى الشمول المالي وذلك لتحقيق تحوّل هيكلي نحو اقتصاد منتج ومتنوع. مع كل ميزانية تقديرية يتم الإعلان عنها وتتضمن عجزاً مالياً، يُثار تساؤلات متعددة حول دلالات هذا العجز، وغالباً ما يسيطر حجم العجز المالي العناوين الرئيسية، ويعود السؤال التقليدي لساحات النقاش وهو؛ هل يعكس هذا العجز مؤشراً على خلل هيكلي في السياسة المالية؟، وللأسف البعض ينظر له من منظور سلبي ضيق دون الأخذ في الاعتبار السياق الاقتصادي الذي تنتهجه المملكة تماشياً مع استراتيجيات التحول الطموحة. كوجهة نظر شخصية من متابعة لمسار السياسات المالية للسنوات الماضية منذ إطلاق رؤية المملكة، يُمكن التأكيد على أن العجز المالي في هذه المرحلة لا يُعد بالضرورة إشارة سلبية، فهو ليس عجزاً عشوائياً ناتجاً عن سوء إدارة مالية أو إنفاق غير منتج، بل يُمثّل في جوهره أداة من أدوات السياسة المالية التوسعية التي تهدف إلى تعظيم الإنفاق الاستثماري وتعزيز النمو الاقتصادي المستقبلي والمرونة المالية، وذلك من خلال ترجيح كفة التخطيط الاستراتيجي طويل الأجل على حساب تحقيق التوازن المالي الفوري أو الربحية قصيرة الأجل. من خلال اطلاعي على تفاصيل رؤية المملكة وآلية تنفيذ برامجها الاستراتيجية، يتضح أن الإنفاق الجاري ليس إنفاقاً عادياً، بل يعتبر استثمار موجه نحو القطاعات الاستراتيجية المحورية التي تستهدفها المملكة للتنويع الاقتصادي، ولذلك طبيعة هذا العجز المالي ليس بعجزاً عشوائياً، حيث أن أسلوب ادارته يُضفي شعوراً بالاستقرار، والعائد الاجتماعي والاقتصادي لهذا الإنفاق سيفوق بكثير تكلفة تمويله، مما يحوّل التحدي المالي الراهن إلى فرصة استثمارية مستقبلية تعود بالنفع على الرفاهية الاقتصادية الشاملة في المملكة. بشكل مُبسط؛ العجز المالي هو مؤشر مرن تعتمد تفسيراته على السياق الاستراتيجي والغايات التنموية الشاملة، وقراءة العجز يتطلب نظرة تحليلية عميقة لمسارات الإنفاق الحكومي وهيكلته حتى تتضح الرؤية للقارئ، ويتطلب فهماً دقيقاً للسياق التاريخي والاستراتيجي الذي تتحرك فيه المملكة منذ إطلاق رؤيتها التحولية، وذلك حتى يستطيع القارئ التمييز بين العجز الاستثماري التوسعي الذي يولد نمواً وفرصاً حقيقية مستقبلية، وبين العجز الهيكلي الذي يمول استهلاكاً غير منتج، وهذا التمييز هو جوهر السياسة المالية الانتقائية التي تتبناها المملكة. ختاماً؛ العجز في الميزانية يجب ألا يُقرأ كرقم معزول، ويعتبر حالة طبيعية تمر بها العديد من اقتصاديات العالم، والعجز لا يعتبر أمراً ضاراً إذا كان يهدف لاستمرار النمو المستهدف، حتى لا يكون هناك ركود يكلفنا الخروج منه تكاليف مرتفعة. مستشار موارد بشرية khaled@econsult.com.sa يُمثّل في جوهره أداة من أدوات السياسة المالية التوسعية التي تهدف إلى تعظيم الإنفاق الاستثماري