مع ازدياد عدد السكان وارتفاع الطلب على الخدمات الصحية خلال السنوات الأخيرة، اتجهت النظم الصحية حول العالم إلى التوسع في خدمات الرعاية العاجلة (وهي خدمات طبية فورية تقدم للحالات الحادة غير المهددة للحياة) بهدف الاستجابة السريعة لاحتياجات المرضى وتقليل الضغط على أقسام الطوارئ. فأنشأت بعض الدول مباني مخصصة أو ملحقة لتقديم الرعاية العاجلة بالقرب من المستشفيات، بينما دمجتها دول أخرى كساعات ممتدة داخل مراكز الرعاية الأولية، ولكن بطواقم مختلفة. ويبدو هذا التوسع منطقيا في ظاهره، فهو يقدم خدمة سريعة ويخفف العبء على أقسام الطوارئ في المستشفيات. لكن ما يبدو حلا عمليا على المدى القصير يحمل في تبعاته سؤالا لا يمكن تجاهله: ماذا يحدث للنظام الصحي حين تستبدل الرعاية الصحية الأولية - بوابة الدخول الرئيسية للنظام الصحي - بالرعاية العاجلة؟ الرعاية الأولية ليست مجرد «خدمة علاجية عاجلة تنتهي بوصفة طبية»؛ بل هي المكان الذي تبدأ فيه رحلة الفرد داخل النظام الصحي، حيث يحصل على رعاية شاملة ومستمرة تركز على الوقاية، والكشف المبكر، وإدارة الأمراض المزمنة، وتنسيق العلاج عبر مختلف مستويات الخدمة، إضافة إلى تمكين الأفراد صحيا، وذلك في إطار علاقة طويلة الأمد بين المريض ومقدم الرعاية. ولكن عندما يصبح اللجوء إلى الرعاية العاجلة هو الخيار الأول عند أي عارض بسيط، تتشتت البيانات الصحية للمريض، وتضعف قدرة الطبيب على قراءة المسار الطبيعي للمرض، ويضمحل المعنى الحقيقي للمتابعة المستمرة. ويعد هذا التشتت صورة واضحة لما يعرف علميا بتجزئة الرعاية (Fragmentation of Care)، وهو عامل معروف ومثبت تأثيره السلبي على جودة الخدمات الصحية ونتائجها. صحيح أن العديد من الدراسات الحديثة أثبتت فعالية الرعاية العاجلة في تقليل الزيارات وتخفيف الضغط على أقسام الطوارئ، بل وأظهرت قدرتها على خفض التكلفة التشغيلية على المدى القصير؛ غير أن هذه الدراسات نفسها كشفت عن انخفاض ملحوظ في زيارات الرعاية الأولية، وحذرت من أن الاعتماد المتزايد على الرعاية العاجلة كمدخل رئيسي للخدمة قد يقود إلى تآكل تدريجي لدور الرعاية الأولية، بما ينعكس سلبا على جودة الرعاية واستمراريتها. إضافة إلى ذلك، فإن تداخل الرعاية العاجلة مع الرعاية الأولية دون إطار تنظيمي واضح يجعل من الصعب على النظم الصحية تحليل سلوك المستفيدين بدقة؛ إذ تختلط بيانات الرعاية الأولية بزيارات عابرة للرعاية العاجلة لا تعبر عن الاحتياجات الصحية الحقيقية للسكان، ويؤدي هذا الخلط إلى إضعاف القدرة على التخطيط السليم وبناء حلول دقيقة قائمة على قراءة صحيحة للطلب. ومع مرور الوقت، يصبح النظام الصحي أسرع في الاستجابة للأعراض الحادة، لكنه أقل قدرة على إدارة الأمراض المزمنة، وأكثر تكلفة، وأضعف أثرا في تحسين النتائج الصحية طويلة المدى. وعلى الصعيد المحلي، لست من دعاة إلغاء الرعاية العاجلة، بل ممن يرون ضرورة إعادة تنظيمها بما يتلاءم مع تركيبتنا السكانية واحتياجاتنا الواقعية؛ فعدد سكان جدة وخصائصهم يختلفان عن لندن، ولا يشبهان بوسطن. ختاما، ما زالت هناك فجوة بحثية حول تأثير الرعاية العاجلة على جودة الرعاية الأولية واستمراريتها، وهو ما يستدعي دراسات أعمق لفهم هذا الأثر بوضوح. ومن هنا تبرز أسئلة مشروعة تستحق أن تطرح بموضوعية: هل سهولة الوصول إلى الرعاية العاجلة دفعت المستفيدين - دون قصد - إلى استبدال الرعاية الأولية بها؟ وهل كان ضعف الرعاية الأولية هو الشرارة الأولى التي رفعت زيارات الطوارئ في المستشفيات... فجاءت الرعاية العاجلة كحل لاحق؟ أم أن حجم السكان وارتفاع الطلب بطبيعته هما ما خلقا ضرورة لهذا النموذج؟ وهل كان الاستثمار الكبير في برامج طب المجتمع وطب الأسرة يهدف إلى أن ينتهي خريجو هذه التخصصات بتقديم رعاية عاجلة؟ وهل طبق نموذج الرعاية الأولية كما يجب، وقيس أثره على المدى البعيد، قبل أن تتشكل قناعة بأن الرعاية العاجلة حل أنسب لاحتياجات السكان؟ وهل النظام الصحي اليوم هو من يقود اتجاهات الطلب... أم أنه أصبح يركض خلفها؟ AbdullahAlhadia@