حين عُرض مسلسل (الزافر) لم يكن مجرد حكاية تُنسَج مرافئها من الخيال، بل كان نافذة مُشرَّعة على عالمٍ يفيض بالدهشة، حيث تلتقي العراقة بجلال الحاضر، ويغدو الاكتشاف مغامرةً تفتح أبواب الروح قبل أن تعبر حدود الأمكنة. من خلاله تعرَّفت على قرية (ذي عين) الواقعة في منطقة الباحة، تلك اللوحة الحجرية التي غزلها الزمن على جبين الأرض. رغم أنني لم أزر القرية شخصيًّا إلا أن المشاهد التي عُرضت كانت كافيةً لتوقظ شغف الاكتشاف بداخلي، وتزرع في أعماقي توقًا لرؤية تلك المزارع المتدرّجة، البيوت البيضاء المبنية من حجارة الجبال، وعيون المياه التي ما زالت تجري كأنها تحفظ عهد الأجداد. قرية (ذي عين) ليست فقط معمارًا يروي صمود الإنسان، ولكن هي قصيدة صامتة، تختزل بين تفاصيلها حكايات العَرق والكفاح، تنبض بأغاني المطر، وأحلام الذين أحبوا الأرض حتى صاروا جزءًا منها. هناك بين تدرُّجات السفوح تشهد على عبقرية روحٍ لم تعرف الكلل، وحنكة أيادٍ صنعت الحياة رغم وعورة الجغرافيا. الاكتشاف الحقيقي للأماكن التراثية في الوطن لا يقتصر على رؤية المشاهد، بل يتعدَّاه إلى استنشاق عبق الأزمنة الغابرة. والإحساس بخُطى أولئك الذين مروا ذات حينٍ، وتركوا بين الطرقات حكايات لا تُروى بالكلمات. كل حجر عتيق هو رسالة صامتة، كل درجٍ يقود نحو بيت مهجور هو نشيدٌ خفيٌّ يروي قصة حُلم وُلد ومضى. رحلة الغوص في أعماق التراث أشبه بمصافحة غير مرئية مع أجيال خلت، تركت لنا إرثًا لا يُقاس بالذهب؛ بل يُقاس بقيمته في وجدان الأمة. في كل قرية قديمة، في كل بناء أصيل، يكمن جزء من الهوية. الوطن حين يفتح لك كنوزه التراثية لا يمنحك مجرد صورٍ تُحفظ في الذاكرة، إنه يغرس فيك جذورًا أعمق أعمق، يجعلك تُدرك أن الانتماء ليس شعارًا، بل فعل حب دائم بين الجدران المشقَّقة، بين النوافذ الخشبية التي صمدت أمام الرياح، وبين الساحات التي احتضنت أفراحًا وأتراحًا، تتعلَّم أن الهوية الحقيقية تُبنى بصبرٍ وتُحفظ بحبٍّ. الدراما السعودية عبر أعمالها الأصيلة مثل (الزافر) قدَّمت خدمة جليلة للتراث الوطني، وأيقظت فينا ارتباطًا أعمق بجذورنا الممتدة في إرثنا العظيم، فجهودها في تسليط الضوء على القرى القديمة، والمباني التاريخية، والمواقع التي تختزل جوهر الروح السعودية، تستحقُّ كل شكر وتقدير. لقد استطاعت الدراما أن تُحوّل التراث من مجرد صفحات منسية إلى مشاهد نابضة بالحياة يتردَّد صداها في قلوبنا، عبر متابعة (الزافر) أدركت أن الاكتشاف لا يعني الانتقال من مكان إلى آخر، بل هو عبور نحو الذات. رؤية قرية مثل (ذي عين) بعين القلب لا تحتاج زيارة جسدية بقدر ما تحتاج انفتاحًا داخليًّا، فالشعور بالانتماء يمكن أن يتجسَّد في لحظة صدق مع صورة، في تأمُّل جدار صامت، في استحضار خطوات أجيالٍ مضتْ. كل مَعلَمٍ تراثي هو قصيدة تنتظر قارئًا يفهم لغتها، كل قرية قديمة هي نشيد حب كتبته الأيام فوق حجارة الزمن. صون هذه الأمكنة ليس ترفًا ثقافيًّا، إنها مسؤولية وجودية؛ لأن الأمم التي تنسى تاريخها تفقد جزءًا من روحها. الوطن بكل ما يحمله من تراثٍ ليس مجرد حدود، إنه حياة ممتدَّة في كل أثرٍ، منقوشة في كل جدار، مترددة في كل صدًى. وهو أمانة تستقرُّ في أعناق أبنائه، لا تُصان بالكلمات وحدها، بل تُحفظ بالحب العميق، والبصيرة النافذة، والعمل الصادق. ضوء «تراثنا؛ عبقٌ من الماضي، وفخرٌ للحاضر، وخلودٌ في ذاكرة الأيام». (هيئة التراث)