تخيل أنك دخلت في نقاش مع صديقك حول فوائد الحمية النباتية، وأنت مقتنع تمامًا أنها الأفضل للصحة. تقرأ المقالات التي تؤكد وجهة نظرك، وتتابع المؤثرين الذين يتحدثون عن فوائدها، وتشارك على حساباتك الدراسات التي تدعم هذا التوجه. ثم يرسل لك صديقك دراسة علمية محكمة تذكر بعض المخاطر المحتملة لنقص بعض العناصر في الحمية النباتية، فتقول فورًا: «أكيد الدراسة ممولة من شركات اللحوم!» دون أن تتمعن فيها أو تفكر في إمكانية وجود وجه آخر للقصة. هذا، باختصار، هو الانحياز التأكيدي. نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نُحب أن نراه. وهذا التحيّز ليس نابعًا من سوء نية، بل من آلية ذهنية طبيعية في أدمغتنا تهدف لحمايتنا من التعقيد الزائد والقلق الناتج عن الشك. لكن هذه “الراحة النفسية” المزيّفة لها ثمن باهظ: أننا نعيش في فقاعات فكرية من صنعنا، ونسجن أنفسنا في دائرة من القناعات التي لا نراجعها. الانحياز التأكيدي يجعلنا نبحث فقط عن المعلومات التي تؤكد ما نؤمن به، ونتجاهل أو نُسقِط ما يعارضه. فإذا كنت تؤمن أن نوعًا معينًا من الأشخاص غير جدير بالثقة، فستفسّر أي خطأ يصدر منهم على أنه «دليل إضافي». وإذا كنت تعتقد أن منتجًا ما لا يعمل، فستُركز على مراجعات العملاء السلبية وتتجاهل الإيجابية. ولو كنت تتابع قضية سياسية، فستقرأ التقارير التي توافق رؤيتك، وتطعن فورًا في مصداقية التقارير التي تخالفك. خطورة هذا الانحياز لا تكمن فقط في تضليلنا على المستوى الشخصي، بل تمتد إلى كل ما هو حولنا: الإعلام، النقاشات العامة، الأحكام على الآخرين، وحتى قراراتنا المهنية. كيف يمكن لمجتمع أن يتطوّر إذا كان أفراده لا يريدون سماع ما لا يروق لهم؟ كيف نُصلح مؤسسة أو علاقة إذا كان كل طرف يبحث فقط عما يُثبت أنه على حق؟ الانحياز التأكيدي يغذّي العناد، ويضعف الحوار، ويجعل حتى أذكى الناس يقعون في فخ الدفاع عن معتقداتهم وكأنها هويتهم. لكنه في الحقيقة ليس دليل قوة، بل نوع من الهروب: هروب من مواجهة النفس، ومن إعادة النظر، ومن أن نعترف - ببساطة - أن ما كنا نظنه صحيحًا قد لا يكون كذلك. ولأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يهتز ما اعتاد عليه، فإنه يلجأ - بلا وعي - إلى تبنّي المعلومة المريحة، لا المعلومة الدقيقة. يفتح عينًا واحدة على الواقع، ويغمض الأخرى التي قد تعرضه لتساؤلات صعبة. لكن الشجاعة الفكرية تبدأ حين نسأل أنفسنا: هل أنا أبحث عن الحقيقة فعلاً؟ أم أبحث عن تأكيد لما أصدّقه؟ هل أستمع للآخر لأفهمه؟ أم لأجد نقطة أهاجمه منها؟ هل أنا مستعد أن أقول: «ربما كنت مخطئًا»؟ ليست هذه أسئلة سهلة، لكنها بداية لا غنى عنها لمن يريد أن يكون مفكرًا لا مكرّرًا، موضوعيًا لا انتقائيًا. في عالم اليوم، حيث تتدفّق علينا المعلومات من كل اتجاه، وتتنافس الآراء على جذب انتباهنا، فإن مقاومة الانحياز التأكيدي ليست ترفًا معرفيًا، بل ضرورة عقلية. أن نراجع أنفسنا لا يعني أننا ضعفاء، بل يعني أننا أحياء فكريًا. والاعتراف بأننا بشر نخطئ، ونتحيّز، ونتعلم، هو أول خطوة نحو وعي ناضج.. وحرّ!