الدعوة للأدب والتقدير واحترام الكبار، والاقتداء بالنماذج الوطنية في صناعة القرار والتربية الاجتماعية، ليست دروسًا نظرية تُلقّى، بل هي سلوكيات تُمارس وتُغرس في النشء من خلال القدوة الحية والمواقف الواقعية. وهذا ما يتجلى في شخصية مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة، الأمير خالد الفيصل، ابن مكة البار، الذي شكّل إضافة نوعية في المجتمع السعودي بعلمه وثقافته وفلسفته الإدارية التي باتت مضرب مثل اليوم. من الأقوال الجميلة للفيلسوف اليوناني سقراط مقولته الشهيرة: “تحدّث حتى أعرف من أنت”. هذه العبارة التي بات يستدل بها الناس اليوم لاكتشاف شخصية الإنسان من خلال حديثه وأفكاره، تعكس فلسفة سقراط القائمة على الحوار. ومن أجمل الحوارات التي تثري المتابع تلك التي تنعكس على حياتهم بالتأثير والتقدير وتطوير ذواتهم. الأمير خالد الفيصل أديب أريب؛ فمنذ عودته من لندن حاملاً شهادته العلمية، أسس عام 1387هـ في منزله بالرياض صالونًا أدبيًا ثقافيًا قبل نشأة الأندية الأدبية، كان مقصدًا للأدباء والمثقفين، ورافدًا لأبناء المجتمع في ثقافة جديدة في ذلك الوقت. ثم جاءت ارتباطاته العملية في إماراتي عسير ومكة المكرمة، والتي نقلته من الرياض إلى ساحات العمل الإداري، فانشغل عن نشاطه الثقافي المعروف هناك. لكنه، وبفضل أصالته المتجذرة، ظل وفيًا للثقافة ومشاركة الناس، فأسس مجالس جديدة بنَفَس متجدد، يستمع فيها للأهالي والمسؤولين لتنمية المجتمع وتحقيق آمالهم وتطلعاتهم. كانت مجالسه عامرة بالرواد والأفكار، وتحولت إلى إنجازات موثقة، من المهم الاطلاع عليها والاستفادة منها. أطلت عليكم، ولكن الحديث عن شخصية ابن مكة البار ذو شجون، وما دعاني لكتابة هذا المقال هو لقاءات سموه الفضائية، التي يخرج منها المتابع دائمًا بإعجاب على أقل تقدير. أكثر ما يعجبني في لقاءاته عندما يتحدث عن العائلة والأُسرة: عن والديه، عن جده الملك المؤسس، عن أعمامه وإخوانه… فيفيض احترامًا ووفاءً. وسأستعرض هنا لمحة من لقائه مع المذيع عبدالله المديفر حين روى قصة تعيينه أميرًا لمنطقة عسير، إذ يقول: علم بخبر التعيين من عمه الملك فهد -يرحمه الله-، وكان واضحًا من حديث سموه أنه لم يكن يتوقع القرار، بل نزل عليه الخبر كالصاعقة بمفهومنا العامي. لهذا تردد في الموافقة، ولم يُبدِ فرحته، وحاول أن يعتذر لعمه، لكن الأدب والوقار في شخصيته كانا حاضرين، فقال بتلقائيته وصراحته المعهودة: “ما كنت أبغى العمل في الإمارة بالذات”. ثم سأل عمه سؤالًا يبحث فيه عن مخرج: “هل لي خيار في الموافقة من عدمه أم أن هذا أمر؟”، فرد عليه الملك فهد: “هذا أمر، مالك خيار فيه، وهذا قرار عُمّانك”. بدت الأمور تتعقد أمام الأمير الشاب، الذي كان له حتمًا خيارات وظيفية وقناعات مختلفة في ذهنه، لكن نظرة الملك فهد لم تخطئ حين رأت فيه الحاكم الإداري القدوة الذي أصبح اليوم مضرب مثل في علم الإدارة والتخطيط والتنمية. لم يقف الأمير خالد عند هذا الحد، وبحنكته الدبلوماسية المبكرة رحّب بالخبر وقال: “على عيني ورأسي، لكن إذا سمحتوا لي لا بد أكلم أبوي”. فرد الملك فهد: “أصلًا لا نعمل شيئًا إلا بعد أخذ موافقة أبوك”. أجابه الأمير خالد: “برضه لازم أكلمه”. ذهب إلى والده الملك فيصل وقال له: “عمي فهد استدعاني، وقال إن عماني رأوا أن أذهب لإمارة عسير، وقلت له أنا تحت أمركم، ولا لي أمر في نفسي، ولكن الذي يوجهني فيه الملك فيصل”. فرد الملك فيصل قائلًا: “ما عليّ منك”. اندهش الشاب خالد وقال: “كيف ما عليك مني! أنت أبوي بغض النظر عن كونك ملكًا”. وكأنه يبحث عن مخرج! وهنا حسم الملك فيصل الأمر بنظرة حاسمة قائلاً: “طيع عمانك”. يقول الأمير خالد الفيصل: أصبحت كلمة (طيع عمانك) نبراسًا ومنهج حياة بالنسبة لي.” وفي ختام هذا المقال، كم في هذين الحوارين من تقدير ووقار! بين الأمير خالد وعمه الملك فهد، وبين الأمير البار ووالده الملك فيصل -يرحمهما الله-، رسائل تربوية قيادية تستحق أن تكون ضمن مناهجنا الدراسية ليستفيد منها النشء، مع تسليط الضوء على عمق التربية القيادية في الأسرة السعودية المالكة، فهي دروس حقيقية في صناعة الشخصية السعودية المهابة. رسالتي للشباب ومنهم حديثي التخرج: اجعلوا “طيع عمانك” منهج حياة لكم، واعلموا أن عُمّانكم وآباءكم أدرى بمصلحتكم، فلا تتفلسفوا عليهم، واقتدوا بأميركم.