تمثل التركيبة السكانية في الشرق الآسيوي تحديًا ضخمًا إذ بدت ملامح تأثيرها المستقبلي تهديدًا للنجاحات الاقتصادية التنموية، وتعاني دول شرق آسيا، مع اختلافها، ارتفاع معدلات الشيخوخة المتزامن مع تراجع أعداد المواليد. إذ دقت أزمة الديموغرافية لدول شرق آسيا ناقوس خطر، وحدث تغير أساسي في سياساتها، إذ تُلقي بظلالها على الاقتصاد ومعدلات النمو واليد العاملة التي من شأنها أن تؤثر في الإنتاج بالعديد من قطاعاتها. يُمثل التحول الديموغرافي تحديات اقتصادية واجتماعية جسيمة، تشمل تقلص القوى العاملة وارتفاع تكاليف الرعاية الاجتماعية لدعم كبار السن. كما ينعكس هذا التقلص في معدلات المواليد في إمكانية أن تتعرض هذه الدول لتراجع في معدلات القوى الشرائية، والبنية التحتية غير مستغلة، والمجمعات السكنية يهيمن عليها كبار السن بشكل متزايد. وانخفض معدل المواليد في اليابان إلى مستويات غير مسبوقة، مع وصول عدد المواليد إلى 721 ألف طفل فقط في عام 2024، وهو ما يمثل العام التاسع على التوالي من الانخفاض، وأدنى عدد منذ بدء التسجيل قبل 125 عامًا. وفي الوقت نفسه، سجلت اليابان نحو 1.62 مليون حالة وفاة خلال الفترة نفسها، فأكثر من شخصين ماتوا مقابل كل طفل جديد يولد. ومن المتوقع بحلول عام 2054، أن تصبح طوكيو مدينة مسنين، فأكثر من 30 % من سكانها أعمارهم 65 عامًا، كما وبلغ إجمالي عدد سكان البلاد أكثر من 123 مليون نسمة في عام 2024، ومن المتوقع أن ينحسر العدد إلى حوالي 88 مليونًا بحلول عام 2065. في كوريا الجنوبية، ومنذ عام 2018، أصبحت سيؤل العضو الوحيد في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الذي يبلغ معدل الخصوبة لديها أقل من طفل واحد لكل امرأة. وكشفت إحصاءات حكومية في مارس من العام الماضي أن عدد الزيجات في عام 2023 انخفض بنسبة 40 % مقارنةً بالمستوى المسجل قبل عقد من الزمن. كما يتوقع أن تتقلص نسبة السكان في سن العمل (من 20 إلى 64 عامًا) بحوالي 35 % حتى عام 2050 إذا استمرت نفس معدلات الخصوبة في البلاد. وشهدت الصين تراجع معدلات المواليد لما يصل إلى النصف بين عامي 2016 و2022 لتصل إلى 9.5 مليون مولود العام الماضي، كما أعلنت بكين رسميًا عام 2023 أنها تتعرض لتراجع في معدلات السكان للمرة الأولى منذ 60 عامًا، ويتزامن ذلك مع تسجيل الصين العام الماضي لأقل معدلات للزواج منذ عقود. وتظهر إحصائيات وتقارير دولية أن نسبة السكان في سن العمل بالصين ستتقلص بحوالي 186 مليون شخص حتى عام 2050، كما تشير توقعات بأن ربع سكان الصين سيصبحون في عمر ما فوق الـ65 عامًا بحلول عام 2040. بحسب الدراسات، هناك عدة عوامل تُفسر انخفاض عدد الأشخاص الذين يختارون الزواج وإنجاب الأطفال في دول جنوب شرق آسيا، من بينها ارتفاع تكاليف المعيشة في هذه الدول، وركود الاقتصاد والأجور، وضيق المساحات. ويشكل تغير المعايير المجتمعية في هذه الدول أحد أسباب العزوف عن الزواج والإنجاب، خاصة مع حرص النساء على عملهن وخشيتهن أن يعطل الزواج والإنجاب مسيرتهن العملية. إلى جانب التكلفة العالية للزواج وبناء المنزل وتأسيس العائلة، وتعد ثقافات الشركات غير المتوافقة مع الوالدين العاملين من العوامل الرادعة للزواج والحياة الأسرية في دول شرق آسيا. كما تلعب ثقافة العمل المرهقة في اليابان سببًا رئيسيًا في انخفاض معدلات الزواج، ومن ثم الإنجاب والمواليد. مما يدفع العديد من الشباب في سن الإنجاب إلى التركيز على حياتهم المهنية بدلاً من تكوين أسرة. من الملاحظ، أن دول شرق آسيا عززت دورها بعدد من البرامج والسياسات لتعزيز معدلات المواليد ودعم الزواج بين الجيل الجديد، فأنشأت اليابان هيئات حكومية جديدة تُركز تحديدًا على تعزيز معدلات الخصوبة وتشجيع الزواج. وقد أطلقت مبادرات مثل توسيع مرافق رعاية الأطفال، وتقديم إعانات سكنية للآباء، بل وحتى دفع أموال للأزواج لإنجاب الأطفال في بعض المدن. تستعد الحكومة اليابانية لجعل الولادة الاعتيادية مجانية ابتداءً من أبريل 2026. بينما دعا مجلس الدولة الصيني في أكتوبر الماضي إلى بذل جهود لبناء «ثقافة جديدة للزواج والإنجاب» من خلال نشر احترام الإنجاب، والزواج في السن المناسب، ومسؤولية الوالدين المشتركة في رعاية الأطفال. ومن التدابير المطروحة تحسين تأمين الأمومة، وإجازة الأمومة، وتوفير الإعانات والموارد الطبية للأطفال، وحثّ مجلس الوزراء الحكومات المحلية على تخصيص ميزانيات لمراكز رعاية الأطفال وفرض ضرائب ورسوم تفضيلية على هذه الخدمات. كوريا الجنوبية أنفقت 270 مليار دولار أمريكي في السنوات الست عشرة الماضية لتشجيع الإنجاب، وقد شملت أفكار الحوافز المؤيدة للإنجاب مكافآت الأطفال، ومكافآت نقدية، والإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية، كما تُقدّم الدولة إعاناتٍ لعلاج الخصوبة لجميع الأزواج الذين يعانون من العقم، بغض النظر عن دخلهم. كما يُمكن للنساء الحوامل المقيمات في سيئول الحصول على إعانة مواصلات بقيمة 514 دولار أمريكي لتغطية أجور سيارات الأجرة والحافلات ومترو الأنفاق. تسعى دول الشرق الآسيوي بمختلف السياسات والإجراءات التنفيذية إنقاذ تركيبتها السكانية وزيادة أعداد مواليدها، وتحويلها من دول هرمة قد يتعطل اقتصادها وتتغير بنيتها الاجتماعية، إلى دول تضمن استمرارية نموها الاقتصادي وتوفير العمالة اللازمة لصناعتها المختلفة إلى جانب الحفاظ على هيكلها الاجتماعي والأسري، ويبقى السؤال: هل سيواجه العالم العربي ذات المشكلة مستقبلًا رغم عزوف الشباب عن الزواج وانخفاض معدل الإنجاب في المنطقة الذي يُنبئ بسيناريو يشابه الشرق الآسيوي في المدى المتوسط؟