نستكمل الحديث عن هذا الموضوع الكبير المتشعِّب، الذي يستوجب للكثير من عمليَّة التَّصحيح، التي لا يستطيع القيام بها سوى مؤسَّسات ذات إمكانات واسعة، وخبرات عالية، لكنِّي في هذا المقال، وددتُ نبشَ الموضوع؛ ليكون مادةً مستقبليَّةً لمَن يقوم بذلك، وحتى يكون لهذا المطلب حجَّة أو مجموعة من الحجَّج الثابتة، فقد استجلبتُ بعض الأمثلة المعلومة من الكُتب السماويَّة، والمراجع الهامَّة لمَن يهتم بهذا المجال، فالتاريخ العربي الذي كان قبل الدعوة المحمديَّة بامتداد القرون التي مضت، حتى القرن التاسع قبل الميلاد، تؤكِّدها الدراسات الجادَّة والقديمة، ولعلَّ أهمَّها كتاب المستشرقة الألمانيَّة زغريد هونكة، المُسمَّى (شمس العرب تسطع على الغرب)، والذي تحدَّثت فيه عن الكثير من المعلومات الهامَّة عن التاريخ العربيِّ، وبالطبع ليست الوحيدة التي تحدَّثت عن ذلك، بل تحدَّث البعض الآخر من المستشرقين عن هذا الموضوع، ففي الكُتب السماويَّة كالتَّوراة والإِنجيل، وردَ الكثيرُ من تلك المعلومات التاريخيَّة عن بعض الأنبياء، كسيِّدنا إبراهيم، وابنيه إسماعيل وإسحاق، وسيِّدنا لوط -عليهم جميعًا السَّلامُ- ثمَّ سيِّدنا موسى -عليه السَّلامُ- وسيِّدنا شعيب، وسيِّدنا سليمان -عليهما السَّلامُ- فكل هؤلاء الأنبياء، وردت أسماؤهم مقرونةً بأسماء مواقع موجودة في وسط وشمال وجنوب الجزيرة العربيَّة، حتى حدود البحر العربيِّ في اليمن، وذلك في سفر التكوين بكلِّ إصحاحاته، وذكرُ تلك في هذه المساحة لا تكفيه، لكنِّي سوف اقتصرُ على المواقع التي ذكرت في سيرة سيِّدنا إبراهيم -عليهِ السَّلامُ- وهي أيضًا كُثر لمَن يرغب معرفتها، لكنِّي أيضًا اقتنصُ بعضَ تلك الأسماء التي وردت في التوراة، والتي تقع في منطقة الحجاز، والتي تقع بها منطقة الباحة حاليًّا، وأذكر معها السفر والإصحاح الذي وردت فيه، فعلى سبيل المثال لا الحصر (في سفر التكوين الإصحاح 14، 15، 16، 17) ذُكر فيها اسم: بالخزمر - غيلان - بني عامر - أديمة - صغرة - وادي عمقة - وادي الفرعة - أضم - قنونا - رفاعة - كنانة - كرا - وادي مصر. وبالطَّبع ذكرت أسماء أُخرى كُثر من منطقة الحجاز السراة وتهامة بما فيها مكَّة المكرَّمة. أما تاريخ العرب قبل البعثة النبوية، فقد كان ملوثًا بالعصبيات القبلية، والصراعات غير المبررة، كالحروب بين القبائل وحتى القرى المتجاورة، مثل حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، وغيرها كُثُر، بالإضافة إلى حالة الجهل المدقع والمظلم، الذي عاشه العربُ في تلك المرحلة، والذي يستوجب إعادة كتابته. فكيف يُكتب تاريخ بدقَّة وموضوعيَّة، عاش في تلك المرحلة الظلاميَّة؟ أمَّا خلال المرحلة النبويَّة، فقد أرسل اللهُ تعَالَى لهم نبيًّا مِن أنفسِهِم؛ ليخرجَهُم مِن تلكَ الظُّلماتِ إلى نورِ العلمِ، وبناءِ الأرضِ، وأنزلَ إليهم كتابًا من السَّماء (القرآن)، فكان ذلك -والحمد لله- لكن بعد وفاة الرَّسولِ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وبعده الخلفاء الرَّاشدين، بدأت حالة النَّخر تدبُّ في مفاصل العرب، حيث عادتِ العصبيَّة القبليَّة، ولكن بصورةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ هي العصبيَّة الفئويَّة، أو فلنقل العرقيَّة، ثمَّ تلاها العصبيَّة المذهبيَّة، فكانت فترة بني أمية، ثمَّ بني العباس، ثمَّ الفاطميِّين، ثمَّ الأدارسة، والمرابطِينَ والأيوبيِّين، والمماليك، ثمَّ العثمانيِّين وغيرهم، فالبعض ممَّن حكمهم عربٌ نسبًا، أو غير ذلك. وبعد ذلك قسَّم الاستعمارُ الحديثُ الوطنَ العربيَّ في اتفاقيَّة سايكس بيكو (الملعونة)، فأصبحُوا 22 دولةً، ولو عدنا إلى كلِّ فترة حكم من تلك الفترات، لوجدنا تاريخها مكتوبًا بقلم السُّلطة، يمدحُ مَن يمدح، ويذمُّ مَن يذم، وينكرُ ما فعلَه مَن كان قبله، ويمدحُ ما فعلَه هُو، وهكذا كُتب التاريخ العربي بالقلم الملوَّن بألوان تلك الأمم، في مقابل إهمال الجوانب الحضاريَّة الأُخْرى التي يُفترض أنْ تكون أعمالًا مؤسسيَّةً متكاملةً، لكن -للأسف الشديد- هذا واقع الحال لتاريخنا العربيِّ. فهل نجدُ مَن يقوم بتصحيحِهِ؟ نأملُ ذلكَ.