يكتب الاحتلال بالرصاص على جدران غزة كلماتٍ مؤلمة، كأن الجدار صفحة يدوّن عليها ضميره الحقيقي بلا رتوش، وكأن المدينة المهدّمة ليست كافية لتوضيح النية، فيحتاج أن يصرّح بها كتابةً، حتى لا يظل لأحد مجال للشك في طبيعة المعركة الدائرة. هذه العبارات ليست مجرد خربشات جنود يمرّون. إنها بيان سياسي مُعلَّق على الحائط، يشبه توقيعا أخيرا على أوراق العنف يضعه المحتل على ما تبقّى من جدران بقيت صامدة رغم كل القصف. في الأزقة، حين تمرّ نسمة غبار فوق ركام البيوت، تبدو تلك الكلمات مثل صدى صرخة قديمة سكنت المكان. الأطفال الذين يلعبون وسط الأنقاض يُجبرون على قراءة مفردات لم تكن يوما جزءا من طفولتهم. النساء اللواتي يبحثن عن بقية حياة بين الحجارة، يمررن بجانب الجدران الملطخة بتلك الكلمات دون أن يلتفتن. تعلّمن أن يتجاهلن لغة القبح، وأن يصغين فقط لصوت الحياة الذي يخرج من بين الدمار. من منظورٍ تحليلي، ليست الكتابة على الجدران فعلا عبثيا، بل جزءا من سياسة ترويع نفسي، تعتمد على تحويل المكان إلى شاهد على النية، وإلى وسيلة لإخضاع السكان بلا جهد عسكري إضافي. إنها محاولة لفرض سردية كاملة عبر النصوص: «نحن هنا، ونحن نقرر من يعيش ومن يموت»!! لكن ما يغيب عن واضعي هذه الكلمات هو أن الجدار في غزة ليس ملكا للغزاة. الجدار هناك له ذاكرة شعب، وتاريخ مع صور الشهداء، وعبارات التحدي، ورسومات الأطفال، ونداءات الثورة. لذلك، حين تُكتب عليه لغة القتل، يتلقّاها الجدار كجريمة إضافية، لا كقدر. وتحمل غزة اليوم مشهدا نادرا: مدينة تُقصف بالسلاح والكلمات، لكنها تنجو من الاثنين. ما لا يعرفه المحتل أن النصوص التي تُكتب في قلب غزة أقوى من أي تهديد. تُكتب في دفاتر الطلاب الذين لم يتركوا أقلامهم رغم انقطاع الضوء، وفي رسائل الأمهات إلى أبنائهن تحت الأنقاض، وفي صوت المؤذن الذي يعلو فوق هدير الطائرات. هذه هي الكتابة التي تبقى، وهذه هي اللغة التي تُعلّم العالم أن القوة لا تُقاس بالأسلحة، بل بعدد المرات التي استطاعت فيها مدينة صغيرة أن تقول: «ما زلت هنا»، وتتحول الجدران التي أرادها الاحتلال لوحات خوف، إلى مساحات صمود تعكس ما يريد أهل غزة أن يكتبوه: كلمات صغيرة لكنها أقوى من القنابل. نهاية: وسط الدخان، يتضح الفرق بين لغتين: لغة تُكتب بيدٍ تحمل سلاحاً، ولغة تُكتب بيدٍ تحمل روحاً. alfaleh222@yahoo.com