×
محافظة الرياض

في رحاب «خزائن قاضي الرس الملهم» للدكتور خالد محمد الصغير.. سيرة فكر وحكمة وإنسان - أحمد بن محمد بن عبد الله الصغير

صورة الخبر

في رحاب الفكر والعلم، يُطل علينا هذا الكتاب حاملاً بين صفحاته سيرة رجلٍ اجتمعت فيه خصال القاضي العادل، والعالِم المتبصّر، والمربّي الفاضل. وليس الحديث عنه سردًا لتاريخٍ مضى، بل هو استحضارٌ لقامةٍ من قامات العلم والفضل، ولوحةٌ إنسانيةٌ نابضةٌ بالمعاني، تُعيد إلى القارئ صورة القاضي الذي أفنى عمره في إقامة ميزان العدل، وخدمة القرآن الكريم، وبذل الجاه والخير والإحسان. وفي صفحات هذا الكتاب، تقرأ عن نشأةٍ زاهدة، وسيرةٍ علميةٍ رائدة، ومسيرةٍ عامرةٍ بالعطاء، وعن عملٍ اجتماعيٍّ وإنسانيٍّ متدفّقٍ، يفيض من رجلٍ فقد بصرَه، لكنه أبصر بقلبه ما لم يره المبصرون، خاتمًا عمرَه الزاخرَ بالعطاء والوفاء. وقد جمَّل هذا الكتابَ أنه ثمرةُ بَرٍّ ووفاءٍ من الابنِ الدكتور خالد لأبيه، وأنه كُتِبَ بمدادِ البِرّ قبل مدادِ الحِبر. وقد جمع بين العمق الأكاديمي، والرصانة اللغوية البليغة، فجاء هذا السِّفرُ الفريد في أبهى حُلّةٍ، مزجت جمالَ المبنى بعمقِ المعنى، في تسلسلٍ أنيقٍ وترتيبٍ بديعٍ يُمتع القارئَ المستنير. كما تُوِّج الكتابُ بطباعةٍ فاخرةٍ وديباجةٍ رائقةٍ تشدّ القارئ ولا تُملّه، بأسلوبٍ سهلٍ ومتين، وتنويعٍ رصينٍ لافتٍ، جمع بين الأسلوب القصصي والمعرفي والتصويري، ليُلائم مختلف الأذواق، ويُغني محتوى الكتاب. وبذلك يلمس القارئ بجلاءٍ جهدَ المؤلف، وتحليلاتِه للواقع، وتعليلاتِه للمواقف. قد جاء كتاب خزائن قاضي الرس الملهم في أكثر من ثلاثمائة صفحة، قسّم فيها المؤلِّفُ هذه الترجمة إلى خمسةَ عشرَ قسمًا، استهلَّها بإطلالةٍ حافلةٍ تحمل في طيّاتها رحلةَ بحثٍ شاقةٍ خاض غمارَها بعد أن طال العهدُ على رحيل الشيخ محمد - رحمه الله - وطُويت صفحاتٌ كثيرةٌ في ركام الذكريات. فجعل ذلك من مهمة الترجمة أمرًا غير يسير، ولا سيّما أن سجيةَ المترجَم له كانت الكتمانَ عمّا كان وحدث، الأمرُ الذي زاد من صعوبة التوثيق، ورصد الإنجازات، وسرد المواقف والأحداث، ممّا استدعى الاستنادَ إلى الوثائق والحقائق، وإلى شهادة من عاصروه أو شهدوا له بها. ولعنا نقوم الآن بجولةٍ قرائيةٍ بين فصول سيرة الشيخ محمد - رحمه الله - نستعرض من خلالها محطات حياته المضيئة وعطاءه العلمي والإنساني الخالد، متنقلين بهدوءٍ بين محطاتٍ تروي سيرة عالمٍ جليلٍ ورجلٍ استثنائي. بدأ المؤلف بسردٍ مؤثرٍ عن مولده في عنيزة ونشأته في كنف أسرةٍ كريمةٍ تسودها المحبة والاحترام، حيث لقي رعايةً أبويةً صادقةً أسهمت في تهذيب شخصيته وصقل مواهبه. وقد رزقه الله بزوجةٍ وفيّةٍ كانت له عونًا وسندًا في مسيرته، وذريةٍ صالحةٍ تابعت نهجه في خدمة الدين والوطن. ثم يواصل المؤلف الحديث عن انتقال الشيخ من عنيزة إلى الطائف حيث تابع دراسته، ثم إلى الرياض حيث التحق بكلية الشريعة، ليبدأ بعد تخرجه رحلةً طويلةً في سلك القضاء امتدت قرابة أربعة عقود، ختمها بالتفرغ للتدريس والدعوة والإرشاد حتى وفاته - رحمه الله -. ويتناول المؤلف بعد ذلك مسيرته التعليمية والعلمية، فيورد بداياته مع حفظ القرآن الكريم وملازمته لكبار العلماء، ودراسته في دار التوحيد بالطائف، ثم في المعهد العلمي بالرياض، قبل أن يتوج مشواره الأكاديمي بدراسته في كلية الشريعة. كما يبرز ما نهله من علم الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، وما أفاده من ارتياد المكتبات العامرة بالمخطوطات والنوادر العلمية. ثم ينتقل المؤلف إلى أبرز المحطات العملية والعلمية في حياته، فيعرض جهوده في ميادين العلم الشرعي والقضاء والدعوة، متتبعًا مسيرته منذ تعيينه قاضيًا في الرس وتدرجه حتى بلغ مرتبة قاضي استئناف، إلى جانب إسهاماته في التعليم والإمامة ورئاسة جمعية تحفيظ القرآن الكريم. كما أشار إلى ما تحلّى به الشيخ من تمكُّنٍ علميٍّ في الفقه الحنبلي وعلم المواريث وقواعد اللغة العربية، وقدرته الفائقة على الاستدلال والتعليل، مما جعله مرجعًا علميًا يقصده طلابه للاستفادة والتلقي. ولم يغفل المؤلف الجوانب الدعوية والإنسانية في سيرة الشيخ، فبيّن ما أولاه من عنايةٍ ببيوت الله، وتأسيسه أول حلقةٍ لتحفيظ القرآن الكريم، وتنوع نشاطه في مجالات التعليم والإرشاد والدعوة. كما رسم صورةً صادقةً لشمائله وسجاياه، بما فيها من حسن الهيئة وجمال الخُلق وهيبة الوقار، مقرونةٍ بتواضع العالم ودماثة المعشر. وتجلّت إنسانيته في مواقفه التربوية مع أبنائه وأحفاده، وما أورده المؤلف من طرائف ومشاهد تكشف قربه من الناس وبساطة شخصيته وعمق أثره التربوي. وأفرد المؤلف مساحةً واسعةً لشهادات العلماء والمعاصرين الذين عرفوه، فأشادوا بعلمه الراسخ وخلقه الرفيع ووفائه الدائم، كما استعرض عددًا من المؤلفات والمقالات التي تناولت سيرته وآثاره العلمية. وختم المؤلف بفصلٍ مؤثرٍ عن يوم رحيله - رحمه الله - وما تركه من أثرٍ بالغٍ في نفوس محبيه ومعاصريه، ثم أورد في خاتمة الكتاب مجموعةً من الوثائق والصور النادرة التي تجسّد مسيرةً زاخرةً بالعطاء والإنجاز. وهكذا اختتم الكتاب ترجمته بسيرةٍ عطرةٍ تستوقف القارئ أمام قيم البرّ والوفاء، وتؤكد أن حياة الشيخ كانت لوحةً إنسانيةً نابضةً بالعطاء، وأن ذكراه ستظل منارةً مضيئةً لا تطفئها السنون.