الرياض لا تهدأ ولا تنام. حاضرة في كل المشاهد. السلام عنوانها الرئيسي. حقائب دبلوماسييها، ورجال استخباراتها، مليئة بخطط إطفاء الحرائق. لا يعرفون الأنانية. أو النرجسية السياسية. يهمهم الإنسان العربي. بصماتهم تكاد تكون في كل مكان. السعوديون مثل عاصمتهم، لا يهدأون ولا ينامون. أبدوا رغبتهم وحرصهم على وضع الحرب أوزارها بين الإخوة في السودان. وعسى أن يتسامى أولئك، ويضعوا الوطن عنوانا رئيسيا لعودة الحياة الطبيعية لبلادهم. قبلها نشطوا في صد العدوان على غزة. يسير مما نعرفه ويظهر في الإعلام بخصوص هذا الملف. وكثير مما لا نعيه ولا ندركه، من العمل وراء الكواليس. وسبق ذلك إعادة الملف الفلسطيني للواجهة. طافوا الأرض وبلغوا كل عواصم الدنيا لإقناعها بعدالة القضية، وضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهذا بالفعل ما تحقق. صوت أكثر من نصف الكون على تأييد الفكرة السعودية، والاعتراف بفلسطين. كان جهدا مضنيا. لكن حلاوة الفوز أو النصر تبدد كل أشكال التعب والسهر، وقطع مئات آلاف الأميال سفرا من دولة إلى أخرى. وفي الوقت ذاته لم يتركوا سوريا الجريحة. أخذوا بأيدي شعبها وقيادتها الجديدة. وضع - أعني السعوديين - استثماراتهم في عاصمة الأمويين، ولم يتوقفوا عند هذا الحد. بل حملوا ملفهم لعواصم القرار. كان لهم الأثر بأن يشهد الملف السوري، تحولات دراماتيكية كبرى لم تخال للبعض فيما يتعلق بالإدارة الجديدة. قبل أيام بعث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للرئيس السوري أحمد الشرع رسالة دون فيها «ستكون قائدا عظيما. الولايات المتحدة تساعد في ذلك». لا يمكن أن يكون ذلك بمعزل عن جهد السعوديين. ولم تغفل كل تلك التحركات الدبلوماسية والسياسية عن اليمن. صحيح أنها الحديقة الخلفية للمملكة؛ لكنها في نهاية المطاف تعني للرياض أبعادا استراتيجية، تقوم على الارتباط الثقافي والاجتماعي والتاريخي. حط فريق سعودي رحاله بحضرموت نهاية الأسبوع المنصرم. كان هدفه وضع حد لتفاقم التوترات، في أحد أكثر المدن اليمنية أهمية. السؤال: لماذا حضرموت ذات أهمية قصوى؟ لعدة جوانب. أولا: لأنها أكثر المناطق اليمنية حساسية، لاحتوائها منشآت نفطية. ثانيا: كونها المنطقة التي تتمتع بهدوء نسبي، يوفر المناخ المناسب لتواجد أي إدارة شرعية للبلاد، مقارنة ببقية المدن اليمنية. ثالثا: أنها تحتضن قبائل نافذة تشكل ثقلا شعبيا، يرسم ملامحه عدد من القبائل النافذة في اليمن. رابعا: حضرموت تمثل رافعة أساسية لاستعادة مؤسسات الدولة، وصولا إلى إنهاء انقلاب ميليشيا الحوثي الإرهابية. ماذا بعد؟ إبعاد المنطقة عن أي شكل من أشكال الاستقطاب السياسي. فالرياض تسعى لأن تكون حضرموت قادرة على حماية مقدراتها الحيوية، وألا تنزلق إلى توترات، يمكن توظيفها واستثمارها سياسيا وعسكريا؛ من قبل جهات محلية أو إقليمية؛ قد تسهم في تعقيد المشهد اليمني الكلي، المتشظي في أصله وأساسه. دون شك فإن الرعاية السعودية للاتفاق المبرم بين الأطراف المتنازعة في حضرموت، تراعي بالدرجة الأولى سكانها وقاطنيها، وقطع الطريق أمام عدم الاستقرار الذي تعيشه مناطق يمنية أخرى. على المستوى المحلي، يمنح الاتفاق فرصة لالتقاط الأنفاس لسكان المحافظة الذين وجدوا أنفسهم أمام تصعيد كان يهدد بإغلاق طرق، وتعطيل منشآت، وتوقف الحياة الطبيعية. ثم إنه يضع حدا لتنامي بعض من الأطراف المحلية، التي عمدت على نشر قوات بمحاذاة المنشآت النفطية في المسيلة، ولا يمنح الفرصة لأن يكون طرف أقوى من الآخر. فقد حرص الاتفاق على تشغيل المقدرات، التي تعود على حياة الإنسان اليمني. أعتقد أن الضغط «الإيجابي» الذي مارسه السعوديون، يثبت الحظوة التي تتمتع بها الرياض، في أوساط مجتمع معقد التركيبة، إذ يتداخل به البعد القبلي والمناطق والإقليمي. ويؤكد من جانب مواز الحكمة التي تحظى بها القبائل، في دولة لا تملك أهم من الإنسان في مقدراتها ومكتسباتها. برأيي، إن الاتفاق المبرم، سيكون له الأثر في إعادة بناء الثقة بين الأطراف في حضرموت، فهو بالضرورة أن يكون عاملا يجب أن يعول عليه أبناء هذا الجزء المهم من اليمن، وذلك لن يتم دون أن رفع لواء المواطنة وأخوة الدم، على حساب إلغاء المصالح الضيقة والنفعية الشخصية أو الفئوية لأي طرف من الأطراف. إن القدرة السعودية على ضبط التوازنات اليمنية، لا سيما بين القبائل النافذة والسلطات المحلية، هي نتاج خبرة عشرات من السنين، فرضتها ارتباطات استراتيجية بين البلدين، بعيدا عن بعض المراحل التاريخية، التي رقصت فيها صنعاء وأخواتها على «رؤوس الثعابين»؛ وأعني حقبة حكم علي عبد الله صالح، الذي أدار الدولة تارة باللؤم، ومرة بالفتنة بين القبائل، ومرات عديدة ببث الرعب في نفوس اليمنيين. زرت اليمن ثلاثا. لمست ثقل المملكة في الأوساط الشعبية، والرسمية. ورأيت شريحة مناهضة للسياسة السعودية، من الحوثيين، ومؤيديهم. والإخوان المسلمين، أتباع التجمع اليمني للإصلاح. ذهب الفريق السعودي بصمت. بلا ضجيج. بعيدا عن فلاشات الإعلام. لم يكتف بهدنة مؤقتة. ولا وعود مبهمة. آمن بأن الجيد بما يكفي، لا يكفي.واستطاع هندسة التآخي بين الرجال في حضرموت.. وعاد.