منذ أكثر من ستة عقود، ومحمد عبده يكتب لنفسه وللأغنية السعودية سيرة فنية بالغة الثراء، سيرة لا تعتمد على التنقل بين الحفلات فحسب، بل على تطوير هوية غنائية كاملة أصبحت اليوم أحد أهم ملامح المشهد الفني في العالم العربي، ولم يكن مجرد صوت يعتلي المسارح، بل مشروع موسيقي متكامل حمل الأغنية السعودية من إطارها المحلي إلى فضاءات عالمية واسعة، مستنداً على ثقافة موسيقية راسخة وقدرة فنية نادرة جعلته رائدًا في تشكيل ذائقة جماهير تمتد من الخليج إلى باريس ولندن. لقد كان مشواره كثير التحولات، لكنه ظل ثابت في قيمته الفنية، فمنذ بدايته، أدرك أن من يحمل لقب (فنان العرب) لا بد أن يتمتع برؤية عابرة للحدود، ولذلك، لم يكتف محمد عبده بمخاطبة جمهوره المحلي، بل خاض تجارب عالمية مبكرة تعد جريئة بمقاييس زمنها، فقد شارك في مهرجانات دولية بارزة، ووقف على مسارح أوروبية لم يصل إليها أي صوت عربي قبله، مقدم نموذج جديدًا للفنان القادر على تمثيل ثقافة وطنه أمام العالم بثقة واحترافية. وتجلّت هذه النزعة العالمية بشكل واضح عندما شارك في كرنفال جنيف أواخر الثمانينيات، وهي تجربة شكلت بداية انفتاح صوته على الجمهور الغربي. ثم جاءت حفلة لندن في عام 1997 لتكون واحدة من أهم المحطات التي وثقت حضوره الدولي، حيث قدم فيها مجموعة من أعماله التي قدمت بتوزيعات موسيقية حديثة ومختلفة، فصار صوته، لأول مرة، يتردد في قاعة أوروبية شهيرة كجزء من حدث ثقافي كبير. وبعدها جاءت محطته الأهم في باريس حين وقف في الأوبرا الفرنسية ليصبح أول فنان عربي يصدح في هذا الصرح العريق، مؤكداً أن الأغنية السعودية قادرة على عبور كل الفواصل الجغرافية والثقافية. وكانت رغبة محمد عبده في التقاطع مع الثقافات العالمية جزءًا من مشروعه الفني الممتد، فهو يدرك أن الموسيقى لغة قادرة على خلق الجسور، لذلك جاءت أعماله الكبرى في السنوات الأخيرة لتجسد هذا الفهم، ففي ليلة (محمد عبده وأصدقائه) بدا واضحًا كيف استطاع أن يخلق حالة تلاقٍ بين المدرسة الشرقية التي ينتمي إليها والألوان الأوبرالية الغربية عندما شارك النجم الإسباني (خوسيه كاريراس)، لم يكن اللقاء مجرد مشاركة شرفية، بل حوار موسيقي يتداخل فيه المقام الشرقي مع روح الأوبرا، ليصنع لحظة لا تتكرر بسهولة في تاريخ الفن العربي. وجاءت (ليلة اليوبيل الماسي) لتضيف فصلًا جديداً لهذا الحوار الثقافي، فاللقاء الذي جمعه بالنجمة العالمية (لارا فابيان)، التي دخلت إلى المسرح بمقطوعتها الشهيرة Je t›aime، تحول فجأة إلى حالة فنية لافتة حين فاجأها محمد عبده بمطلع (مجموعة إنسان) ليكون لالتقاء الصوتين خلق مساحة غير مألوفة من التمازج بين الحس الفرنسي والغناء السعودي، فجاء المشهد وكأنه لوحة تُظهر قدرة الفن على تجاوز اللغة والحدود واختلاف المدارس. ولم تتوقف تلك اللحظات عند ثنائية الشرق والغرب الصوتية فقط، بل امتدت أيضًا إلى الموسيقى الآلية. ففي تعاون آخر ضمن اليوبيل الماسي، شارك العازف العالمي هاوزر على آلة التشيللو، لتنساب مقطوعاته الكلاسيكية وتتداخل مع أنغام أغنية (كل ما نسنس) في صياغة موسيقية تشكل فيها الجمال الشرقي والغربي معًا في مسار واحد، مؤكدة أن محمد عبده لا يزال مرآة للتجديد مهما طال عمر مسيرته. واليوم، يضيف أبو نورة محطة جديدة إلى هذا الامتداد الطويل، إذ يحيي جلسة غنائية مميزة ضمن فعاليات «موسم الرياض» يوم 28 نوفمبر على مسرح (محمد عبده أرينا)، وهو المكان الذي أصبح رمزًا لحضوره، وامتداداً طبيعياً لعلاقته التاريخية بجمهور المملكة، هذه الجلسة تأتي لتعيد تقديم أعماله بمساحة أقرب وأكثر دفئًا، وتمنح عشاقه فرصة للعودة إلى الأغنية الشعبية والسامرية واستعادة المكانة التي ما زال صوته يحتفظ بها في ذاكرة الجيل القديم والجديد معًا. وكان لفنان العرب حضوراً باهياً على مسرح المهندس محمد البواردي في محافظة شقراء مع افتتاح فعاليات «موسم الرياض» في منتصف أكتوبر الماضي، وبجزء من هذه المحطات، يثبت محمد عبده أن الفنان الحقيقي لا يتوقف عند نجاح، ولا يكتفي بما أنجزه، بل يواصل صناعة حضور جديد يمنح للأغنية السعودية قيمتها ومكانتها في خارطة الموسيقى العربية والعالمية.