في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. في جنوبي المملكة العربية السعودية على أطراف محافظة ثار شمال نجران، تتدفق الحكايات كما الماء، من موقعٍ ليس كغيره. آبار حمى ليست مجرد آبار قديمة، بل هي مفترق زمني مرّت به القوافل، ونقشت حوله حضاراتُ سبعة آلاف عام قصصها على الصخور، وسكبت في محيطه لغاتها، ودفنت فيه أسرارها. إنها ذاكرة مائية ومتحفٌ مفتوحٌ للتاريخ الإنساني، يربط جنوب الجزيرة العربيّة بذاكرة الشرق الأدنى القديم، ويقف شامخًا في قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2021م. «موقع إستراتيجي وحكاية عمرها آلاف السنين» تقع آبار حمى شمال نجران بنحو 130 كلم، في منطقة حمى الثقافية، وتضم ست آبار رئيسية: أم نخلة، والقراين، والجناح، وسقيا، والحماطة، والحبيسة. حُفرت معظمها في الصخور، وتحيط بها كهوف وجبال من الجهات كافة عدا الشرقية، فيما تنتشر حولها 34 معلمًا أثريًا ما بين مساكن بدائية، وهياكل حجرية، ومواقع للنقوش. لم تكن الآبار مجرّد مورد ماء، بل شريان حياة للقوافل التجارية القادمة من الجنوب إلى الشام ومصر وبلاد الرافدين، وقد شكّلت عبر آلاف السنين محطة استراحة، وموضع لقاء، ومساحة للنقش والتوثيق، والتعبير عن الوجود الإنساني. «موسوعة منقوشة على الصخر» في آبار حمى، لا توجد جدران من طين أو أعمدة من حجر… بل توجد 550 لوحة صخرية تتضمن مئات الآلاف من الرسوم والنقوش التي حفرها الإنسان على امتداد قرون، لتُصبح لاحقًا مرجعًا بصريًا وأثريًا فريدًا عن التحولات الثقافية والدينية والاجتماعية. ومن أبرز ما يميز الموقع وجود الكتابات بلغاتٍ قديمة متعددة: الخط المسند الجنوبي، الثمودي، الآرامي-النبطي، الخط العربي المبكر، واليوناني. وكل خطٍّ منها يحكي عن شعوبٍ مرّت من هنا، وسجلت رسائلها، وخلدت وجودها. «منبع الأبجدية وتاريخ الإنسان الأول» النقوش الموجودة في حمى هي محاولة مبكرة لصياغة أبجدية العالم. عبر هذه النقوش، يمكن تتبع بدايات التواصل الكتابي، وتطور الرموز، كما يظهر في الخط المسند والثمودي. إنها وثائق حيّة تصف لحظات من الحياة اليومية، كالصيد، والرعي، والمعتقدات، وحتى الرسائل السياسية والقبلية. وقد وجد علماء الآثار أكثر من 100 موقع أثري في محيط الآبار، تعود لعصور مختلفة، بعضها موغل في القدم حتى الألف السابع قبل الميلاد، بحسب ما توصلت إليه البعثات السعودية والدولية، ومنها البعثة السعودية-اليابانية بالتعاون مع «الجايكا». «آبار حمى.. مركز الحضارات المتعاقبة» تُعد منطقة حمى الثقافية نموذجًا للتمازج الحضاري في جزيرة العرب. فقد تعاقبت عليها شعوب مختلفة، وتركت كل حضارة بصمتها. ومن أبرز معالم المنطقة: جبل صيدح وجبل حمى: غنيّان بالنقوش والرسوم. عان جمل و»شسعا» و»الكوكب»: مواقع تحتضن نقوشًا حيوانية وآدمية تُظهر البدايات الأولى للفن. المدافن والأرجام والهياكل الحجرية: تشي بأن المكان استخدم للأغراض الدينية والاجتماعية. ولم يكن عبور الجيوش أو القوافل مجرد مرور، بل فعلًا ثقافيًا، حيث يترك العابرون آثارهم على الصخور، يودعونها كلمات وأشكالًا تروي بقاءهم. «النقوش والاعتراف العالمي» تُوّجت هذه القيمة التاريخية الفريدة في العام 2021م، حين نجحت المملكة في تسجيل «منطقة حمى الثقافية» ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، كأحد أقدم المراكز الثقافية المفتوحة، ولتصبح سادس موقع سعودي يُدرج عالميًا. ويمثّل تسجيل الموقع تتويجًا لجهود المملكة في الحفاظ على الإرث الإنساني، وتنفيذًا لرؤية 2030 التي تضع التراث الوطني في قلب التنمية الثقافية والسياحية. «وجهة للسياحة الثقافية والمعرفية» بفضل ما تزخر به من تنوع جغرافي وكنوز تاريخية، أصبحت منطقة آبار حمى وجهة مميزة لمحبي السياحة الثقافية والاستكشاف الأثري. وتحظى اليوم برعاية الجهات المختصة، مثل: وزارة الثقافة وهيئة التراث، عبر مشاريع حماية وتأهيل وتوثيق دقيق للمواقع. وفي قلب ذلك الامتداد الصخري، تستمر آبار حمى في التدفق بالحكايات، ليست فقط لأن ماءها لم ينضب منذ آلاف السنين، بل لأن ذاكرة المكان لا تزال تنبض، وتكتب فصولًا جديدة في سجلّ الإنسانية. «رواية الزمان» في مكانٍ واحد، تتقاطع الأزمنة، وتتلاقى اللغات، وتتجلى براعة الإنسان الأول، وتتشكل هوية الجزيرة العربية القديمة. آبار حمى ليست فقط تراثًا سعوديًا، بل هدية من الجزيرة للعالم، ومنارة لحضارة لم تزل تنبض في الصخر والماء.