في بداية القرن الماضي كانت ألمانيا تنام على هامش الدول المتفوقة رياضياً. واليوم، أي بعد مرحلة من التخطيط والجهد المنظم، تُصنف كثاني أقوى دول العالم في صناعة كرة القدم. ويُلقب منتخبها بالماكينات، كتعبير عن لياقة لاعبيه العالية وانضباطيتهم، ومهاراتهم، ومتانة أجسادهم. وهذا اللقب لم يتأت من فراغ. بل نتيجة رصيد من البطولات. حيث صار المنتخب الألماني صاحب أكبر إنجازات في تاريخ كرة القدم العالمية. كما أصبحت المانيا واحدة من أبرز الدول التي تحصد ميداليات الفوز في مختلف الألعاب الفردية والجماعية. وقد جاءت تلك الإنجازات كتتويج لما عُرف بنظرية المركز الثقافي الرياضي التي اعتمدتها للنهوض بالرياضة كجزء من نظام تعليمي منظم. لا يهدف فقط إلى منافسة دول العالم وإحراز البطولات، بل تتجاوز استراتيجية ذلك النظام إلى تعزيز الصحة البدنية والعقلية للسكان وخلق هوية أو عنوان اجتماعي لائق. ليعود كل ذلك التعافي الذهني والجسدي بالإيجابية في حقول التطوير الصناعي. وعلى هذا الأساس انتشرت الجمنازيوم في كل أرجاء البلاد. حتى صارت الرياضة بكل معانيها الروحية والجسمانية جزءاً من يوميات الفرد الألماني. الذي استطاع أن يحول كل ذلك التخطيط الاستراتيجي إلى بطولات. ونظرية المركز الثقافي الرياضي لا تنفرد بها المانيا. حيث أخذت بها دول كثيرة. وقد كانت وما زالت هذه المراكز تعمل كنماذج لنشاطات اجتماعية يومية. تفرز من خلالها التفضيلات الرياضية. بمعنى أن المركز لا يتحكم في الظواهر الناتجة عن ذلك الاهتمام والتشجيع، بقدر ما يستجيب لميول الأفراد والمجتمع. على اعتبار أن هناك علاقة خفية وقوية ما بين الهياكل الاجتماعية والرياضة المفضلة فردياً واجتماعياً. من منظور علم الاجتماع الرياضي. وهذا هو ما يفسر ولو جزئياً انتعاش كرة القدم في مجتمع ما، وكرة السلة في مجتمع آخر. بالإضافة إلى بقية الألعاب كالكريكت وكرة الطائرة وكرة القدم الأمريكية وهكذا. وهذا لا يعني عدم تدخل المركز في التوجيه الرياضي وحسم الاختيارات الاجتماعية، وتركها لمزاج الفرد. بل اعتمدت المراكز على خزين من الأفكار والمعتقدات القابلة للتحول إلى إسهام فعلي في الحقل الرياضي. حيث تم التعامل مع الطقوس والشعائر والمظاهر الثقافية التي يؤديها المجتمع في طوره البدائي إلى ممارسات رياضية لتكتسي بالدلالة الدينية. وبالتالي تم تسهيل عملية التحول التي نراها اليوم في شكل رياضة علمانية الطابع. لا تؤدى كتمارين طقسية عبادية، بل تُمارَس من أجل تحطيم الأرقام القياسية، وقهر الخصوم، وحصد كؤوس الفوز والتفوق. وبالمقابل تم اعتماد نظرية التفريغ النفسي المستمدة من فكرة الاستخدام الواعي للرياضة. خصوصاً في المجتمعات العسكرية التي خاضت الحروب واحتقنت نفوس مواطنيها بالعدوانية وتراكمت فيها طبقات من الكراهية. حيث عملت المراكز الرياضية الثقافية على تنفيس الذات الرياضية. وتحويل كل تلك الاحتقانات إلى طاقة عضلية معنوية. وهذا هو ما يفسر الارتباط الشكلي ما بين الحرب وكرة القدم - مثلاً - فيما يبدو شكلاً من أشكال إعادة تأهيل الذات من منطور التعلُّم الثقافي. وإبقائه داخل نموذج تمثيلي مصغّر للحرب. أما في مسألة العلاقة ما بين الهياكل الاجتماعية وطبيعة اللعبة المختارة، فقد درست المراكز الألعاب ومنازعها الطبقية. ولذلك تركت ألعاب الجولف والتنس للطبقات الراقية، وصار خبراء المراكز يبحثون عن مبتغاهم في الأوساط العاملة، التي يتميز أفرادها بالقوة البدنية والحماسة والقدرة على التحمُّل، كما يعيشون حالة من التماس الجسدي المباشر داخل بيئة العمل. وهو ما يعني أن المراكز لم تكن تعمل دائماً بمقاصد نزيهة، بل تتحكم في استراتيجياتها المنفعة أحياناً، وتغليب المصلحة السياسية للدولة على حساب الفكرة الطهورية للرياضة. كل تلك التصورات حول نظرية المركز الثقافي الرياضي مجرد ملامح لما يمكن أن يؤديه المركز. وهي نظرية جديرة بالتطبيق في مجتمعنا الذي يعاني من علل روحية وجسدية بسبب تغييب الفكرة الجوهرية للرياضة، والأخذ بشكل المكتسبات التنافسية التي أنتجها الآخر. إذ لا يوجد ذلك التأهيل النفسي والجسماني للذات. ولا يستقبل المجتمع الرياضي أي رؤية علمية في هذا الصدد. حيث تمارس الرياضة على إيقاع المنافسات فقط، والتعصب، واستدعاء الهويات الصغيرة الضيقة للتقاتل بها. وهذا لا يشكل مانعاً للفوز بالبطولات وحسب، بل يدمر أي إمكانية للصحة النفسية والجسدية للمواطن. إن شراء اللاعبين بأغلى من المزادات العالمية واستجلابهم إلى ملاعبنا. والمباهاة بالأرقام القياسية لجماهير المدرجات. ومانشيتات التشفي الإعلامي. وتصنيع النجوم عبر شركات العلاقات العامة. وإطلاق الألقاب على الأندية الموهومة بانجازاتها المحلية. وحتى العقوبات التي تصدر بين آونة وأخرى ضد الخارجين على قانون الممارسة الرياضية، لا تصنع مجتمعاً رياضياً. بقدر ما تورط المجتمع في كذبة رياضية. والدليل هو ذلك الرصيد الصفري من البطولات والإنجازات. إذ من الواضح أن القائمين على الرياضية لا يمتلكون خطة ذات ملامح تجعل من الرياضة جزءاً من التنمية الشاملة. الرياضة ليست مجرد صور استعراضية ومشاركات عالمية وملاسنات مع المنظمات الرياضية الدولية. إنها هوية وعنوان المجتمع المعافى. وكل اختلال أو قصور يصدر عن الذات التي تنتمي للحقل الرياضي يعني أن القائمين على الرياضة أقل وعياً بما تعنية فكرة المجتمع الرياضي. وهو أمر يمكن تداركه من خلال الأخذ بنظرية المركز الثقافي المعنية باستزراع قيم الممارسة الرياضية الحقيقية في المدرسة والمعامل والفضاءات الاجتماعية فالرياضة ثقافة في المقام الأول، وتؤدى في حقل الفكر الواعي قبل أن تمارس بالعضلات العمياء في الملاعب. ناقد