×
محافظة المنطقة الشرقية

بيان قدساوي : ما ورد على لسان لاعب الدرعية عارٍ من الصحة وسنصعد القضية

صورة الخبر

بعد إحدى عشرة حلقة منشورة هنا ترجمت فيها فصلاً من كتاب المفكر البولندي زيغمونت باومان "هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي؟"، فصل عنوانه "الحرية في حقبة الحداثة السائلة"، أجد أن من المنطقي أن أعلق على ما قدمته للقارئ وفي ذهني أن أشير إلى بعض التصورات بشأن العلاقة بين مفهوم الحداثة السائلة وما يؤثر في مجتمعات غير المجتمعات الغربية التي انشغل باومان بتحليلها، مجتمعات منها المجتمع العربي سواء في السعودية أو الخليج أو الوطن العربي بشكل عام؛ وبالطبع فهذا كثير على مقالة واحدة، لكني سأوجز ما لدي على أمل أن يجد فيه القارئ الكريم شيئاً يستحق التأمل. على الرغم من أنني لم أتلق تعليقات على أفكار باومان التي حاولت نقلها، نقلاً لا بد أن أعترف أنه تخللته الكثير من الصعوبات الأسلوبية التي جاء بعضها من إمكانياتي في الترجمة والبعض من صعوبة أسلوب باومان نفسه، فإن السؤال الذي أتوقع أنه تبادر إلى ذهن بعض من تابع تلك المقالات مثلما ألح علي في البدء هو: إلى أي حد يمكننا أن ننظر إلى مجتمعاتنا وثقافاتنا من زاوية الحداثة السائلة التي نظر باومان من خلالها؟ فذلك سؤال مركزي تنهض عليه بعض مبررات ترجمة الفصل الذي قدمته للقارئ. فمع أهمية التعرف على ظواهر في مجتمعات مؤثرة فإن من المهم أيضاً التساؤل حول علاقة مجتمعاتنا بتلك الظواهر، والمقصود منها هنا ما يسميه باومان "الحداثة السائلة"، وللتذكير أقول إن باومان أراد من مفهوم الحداثة السائلة ما يشار إليه عادة أوغالباً بما بعد الحداثة، وهو صريح في هذا في أكثر من كتاب تناول هذا الموضوع. الحداثة السائلة هي الوضع الحاصل منذ انكسرت الحداثة الصلبة التي أمست تقليدية، أي الحداثة التي ظهرت في أوروبا ببداية عصر النهضة واشتدت بالتنوير في القرن التاسع عشر ثم تهاوت بحدوث تغيرات كبيرة وعميقة في بنية المجتمعات الغربية في أواسط القرن الماضي، أو بعيد الحرب العالمية الثانية، إلى أي حد يا ترى يمكننا أن نقول إننا في المجتمعات العربية نعيش حداثة سائلة؟ هناك أراء مختلفة ومتعارضة حول هذا موضوع الحداثة ككل، فهو ما يزال شائكاً ومثيراً للاختلاف، هناك من يقول إننا لم نعش حداثة أصلاً، لا صلبة ولا سائلة، طالما أن الخرافة ما تزال تهيمن على عقول الكثيرين وأنه ما زال بيننا من يرى أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. كما أن هناك من يرانا دخلنا الحداثة بجانب منا ولم ندخلها بجوانب أخرى، وأيضاً من يرى الحداثة السائلة أو ما بعد الحداثة تنتشر هنا وهناك. المؤكد هو أننا ما زلنا نفتقر إلى دراسات وتأملات جادة كتلك التي نجد لدى باومان تكون مجتمعاتنا موضوعاً لها. ما يبدو لي هو أن مشهدنا الثقافي والاجتماعي يعيش تقاطعاً لحداثات تربط أزمنةً مختلفة ومناخات ثقافية متغايرة. الحداثة السائلة التي يتحدث عنها باومان موجودة في عدة مظاهر منها النزعات الشبابية للتنقل بين الهويات حسب ما تجود به الموضات القادمة من الخارج، ولينظر من يعيش بين مراهقين ومراهقات إلى لباسهم وما يستمعون إليه، لينظر إلى تقليعات الشعر والعبارات، حيث تتضح محاكاة النماذج المختلفة من مطربين وممثلين ولاعبي كرة. السيولة واضحة هنا، في كثرة وسرعة التنقل بين الهويات، حتى لكأن الهويات جزءاً من البضائع المعلبة التي تتراكم في السوق والتي يلتهمها المجتمع الاستهلاكي سواء في مجتمعاتنا أو في مجتمعات الغرب. إلى جانب هذا كله هناك تأثير الشبكات الاجتماعية من تويتر وفيس بوك وواتس. العلاقات الاجتماعية الآن، سواء لدينا أو لدى غيرنا، تتسم بالتغير السريع. أناس يخاطب بعضهم بعضاً ويتبادلون الصور والأفكار وغيرها من خلال شبكات افتراضية دون أن يلتقوا بعضهم ببعض، دون أن يعرفوا بعضهم على النحو الذي اعتادته المجتمعات في الثقافات التقليدية. يضاف إلى ذلك سهولة تنقل المعلومات والأفكار بتدفق عجيب ليس عن طريق المواقع الانترنتية المعهودة فحسب وإنما الآن عن طريق الواتس، هذه الشبكة التي تلتهم تفكير الناس ووقتهم وتربطهم في علاقات غير واضحة المعالم أو المؤدية إلى أهداف معينة. هذه كلها أشكال من السيولة الحداثية. لكن من الضروري ونحن نتحدث عنها أن نتذكر أنها لم تأت بعد حداثة صلبة كالتي يتكئ عليها باومان في تحليله. فالحداثة الصلبة هي الحداثة التقليدية التي أصلها التنوير وسعت إلى خلق مجتمعات مفتوحة تنعم بالحرية والعدالة والأمن. تلك القيم عرفناها وما زلنا نعرفها لكن بمقادير وأشكال مختلفة ومن طرق غير طريق التنوير الأوروبي وإن ترك ذلك التنوير أثره في تركيبتنا الثقافية منذ عصر النهضة العربي في القرن التاسع عشر حين اتصلنا بأوروبا. جاءنا التنوير وكان لدينا تنوير آخر مصدره الإسلام فتداخلت القيم والأفكار على نحو لم تعرفه أوروبا، فكان طبيعياً أن ينشأ لدينا مزيج فريد، أو ربما خلطة هلامية. أضف إلى ذلك أن العالم العربي، مثل كثير من العالم غير الغربي، لم يعرف الحداثة الصلبة، حداثة التنوير، على المستوى السياسي. فلم نعرف تطوراً للأنظمة الديمقراطية أو ثقافة الانتخابات، ولم تنشأ لدينا المؤسسات إلا متأخرة، وحين نشأت ظلت متصلة بقوة بما قبل الحداثة، بثقافة تقليدية تجعل اختراق القوانين أمراً ميسوراً إلى الحد الذي جعلها مؤسسات رخوة بل شديدة الرخاوة. فهل نخلص من هذا إلى أن ما لدينا هي "حداثة رخوة"؟ حداثة تجمع الآي فون وأحدث تقنياته وثقافة الاستهلاك والتغير السريع إلى ثقافة الثوابت والمعتقدات التي يجافي بعضها العقلانية ويرفض مبدأ التفحص النقدي. سيولة مع جمود: تلك هي معادلتنا الصعبة والمختلفة. لست بالطبع بصدد الدخول في تحليل معمق كالذي أجراه المفكر البولندي ولا أنا مهيأ له، وإنما هي مجموعة خواطر وانطباعات قد تؤسس لشيء وقد لا تؤسس، المفكر البولندي نظر هو الآخر إلى عالمنا غير الغربي، وإن جاءت نظرته خاطفة تعنى بغير الغرب بقدرما يتأثر بالغرب ويؤثر فيه. فهو يرى حداثة سائلة مثلاً في تنقل الجماعات البشرية من مكان إلى آخر، تلك الأعداد الهائلة من المهاجرين نتيجة للضغوط الاقتصادية أو للحروب والصراعات السياسية. تلك سيولة عالمية شاركت حداثة الغرب نفسها في إنتاجها بما صنعته من هيمنة رأسمالية واقتصاد سوق استهلاكي وأطماع في الثروات. فكما تتدفق البضائع ورؤوس الأموال يتدفق البشر من قارة إلى أخرى. يقول باومان في جزء من الكتاب غير الذي ترجمت: "مئات الآلاف من البشر يطردون من بيوتهم، يقتلون أو يجبرون على الفرار بحياتهم خارج حدود بلادهم، يبدو أن الصناعة الأكثر ازدهاراً في البلاد التي جاءت متأخرة إلى الحداثة (والتي يطلق عليها بالتواء وخداع ’بلاد نامية‘) هي إنتاج اللاجئين بأعداد هائلة". هذه الهجرات أثرت في الغرب وأربكت تركيبته السكانية وبنيته الاقتصادية والسياسية، لكنها أثرت أيضاً في مجتمعاتنا العربية، ليس فقط لكثرة مهاجرينا (من العراق وسورية وشمال أفريقيا، مثلاً) فحسب، وإنما أيضاً لتدفق بعض أولئك على مجتمعاتنا على شكل عمالة مختلفة المهام ومربكة أيضاً لتركيبتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التداخل الهائل بين أولئك النازحين من ديارهم نتجت عنه حداثة سائلة طرحت أسئلة حول الهويات وثوابت الثقافات وما استقر من عادات وتقاليد ومعتقدات، بعض سكان المناطق العربية هجروها إلى أوروبا وأمريكا وفي الوقت نفسه حل في تلك المناطق (لبنان ومصر، مثلاً) عمال مهاجرون من بلاد أخرى. كل ذلك لا يجيب إجابة شافية على سؤال هذه المقالة حول الحداثات التي نعيش، لكنه يهيء ربما لإجابة أو إجابات تحتاج أن ينشغل بها بعضنا لنعرف أنفسنا أكثر في عصر ارتباك الهويات.