تقوم «قطعان» المستوطنين الإسرائيليين، هذه الأيام بحملات تكاد تكون يومية، بالاعتداء على المسجد الأقصى وتتعمد تدنيسه وإرباك إقامة الصلاة للمسلمين فيه.. وتعطيل الدراسة الشرعية به، التي تنتظم حلقاتها العلمية منذ قرون. في واقع الأمر، إن ما يفعله المستوطنون الصهاينة من تدنيس للمسجد الأقصى، هذه الأيام، لا يحظى بحماية الدولة العبرية، فحسب.. بل إن النظام العالمي بأسره يشارك في هذه الجريمة الشنعاء على الإنسانية، بتأييد بعض القوى الفاعلة فيه لإسرائيل وممارساتها القمعية في الأراضي المحتلة، والحؤول دون تحميلها مسؤولية الاحتلال كما توصفها المواثيق الدولية، وكذا تعطيل استصدار قرارات ملزمة من مجلس الأمن، وفقا للبند السابع، تتضمن تدابير رادعة تجبر إسرائيل على احترام القرارات والمواثيق الدولية بوصفها سلطة احتلال ليس من حقها أن تعبث بواقع طبيعة الأراضي المحتلة الديمغرافية والتضاريسية، التي كانت عليها عند الاحتلال. هذه الحماية الدولية التي تحظى بها إسرائيل وتتمحور، بصورة حصرية، في التزام الولايات المتحدة بعدم السماح للمنظمات الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، من أن تقوم بأي إجراء ضد الدولة العبرية إذا ما هي أخلت بالتزاماتها كسلطة احتلال، إنما هو -كما سبق الإشارة إليه في مقال سابق- يُعد أخطر ما تمخضت عنه اتفاقية السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل (٢٦ مارس ١٩٧٩). تجلى ذلك بوضوح في ما صدر عن مجلس الأمن، يوم الخميس الماضي، في بيان باهت وهزيل سمي بالدبلوماسي يعرب فيه المجلس عن قلقه من أحداث الأقصى ويدعو جميع الأطراف الابتعاد عن العنف والاستفزاز! البيان لا توجد فيه إدانة لإسرائيل.. ولا يوجد به تذكير لها بسلطتها كدولة احتلال.. ولا يوجد به أيضا، ذكرا لمرجعية قرارات سابقة من مجلس الأمن بهذا الخصوص.. دعك من القول: إن البيان يحمل أي شكل من أشكال إجراءات الردع، ضد إسرائيل، التي يمتلكها مجلس الأمن ضمن البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. إذن، طريق اللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن يبدو مسدودا، ولا طائل من ورائه.. وأي محاولة لطرق باب مجلس الأمن، تُعد عبثا ومضيعة للوقت، طالما أن «الڤيتو» الأمريكي بالمرصاد، خاصة في هذه الأيام الحساسة التي تمر بالولايات المتحدة حيث التحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية (نوفمبر ٢٠١٧). كما، أن النظام العربي، في ظل الأوضاع غير المستقرة السائدة في بؤر كانت تعد مراكز قوى استراتيجية فيه، كما هو الحال في سوريا والعراق.. وأوضاع التشرذم السائدة في النظام العربي وما يتراءى بوضوح من اختلافات جذرية بين أقطاب مهمة في النظام حول قضايا قومية مصيرية، خاصة ما يحدث في سوريا والعراق، بالإضافة إلى التغلغل الإيراني في بؤر التوتر بالهلال الخصيب واليمن.. كل تلك مؤشرات تجعل من النظام العربي، بوضعه الحالي وآلياته التقليدية، عاجزا عن التعامل مع الأزمة بما تحمله من خطورة على الأمن القومي العربي. ومما يجعل النظام العربي غير كفؤ وغير فعال للتعامل مع الأزمة، تغير أوليات بعض الأنظمة العربية حول قضية الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن كانت دول هذه الأنظمة في طليعة المناصرين للقضية الفلسطينية وفي مقدمة من يحمل لواء النصرة للأمن القومي العربي. مع هذا التغيير في الاستراتيجية والأيديولوجية حول قضايا الأمن القومي العربي، ليس بمستغرب أن ينبري إعلام تلك الأنظمة العربية للتقليل من شأن ما يحدث في المسجد الأقصى، بل ويحاول أن يستحدث تخريجات للأسف بعضها ديني مناوئة لنصرة المسجد الأقصى والمرابطين فيه وبين أكنافه!. ليس هناك من حل عملي وفعال، دولي وإقليمي، من التعامل مع الأزمة التي يمر بها المسلمون في المسجد الأقصى، سوى الرهان على صمود المقدسيين الذين يأبون مبارحة المسجد الأقصى وساحاته ومواصلة العمل على جعله مفتوحا ومتاحا لأداء الصلاة فيه، وعقد حلقات العلم في باحاته، ومنع «قطعان» الصهاينة من تنفيذ مشروع حكومة نتنياهو في ما أسموه: التقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى. يقصد بالتقسيم المكاني هنا: أن يسمح لليهود بدخول المسجد الأقصى في ما بين طلوع الشمس وحتى وقت صلاة الظهر، بدعوى أنه ليس هذا وقت صلاة عند المسلمين! لقد نسوا، أو لنقل تناسوا، أن بيوت الله لا تخلو من المؤمنين وتظل مفتوحة طوال اليوم لأداء سنن الصلاة مثل صلاة الضحى والقيام والتهجد وخلوة الاعتكاف.. وبين الصلوات تقام حلقات الذكر ودروس العلم. أما التقسيم المكاني فيقصدون به: حصر حق المسلمين في المسجد القبلي المعروف بالمسجد الأقصى، بينما ترك بقية ساحات المسجد وكذا مسجد الصخرة لليهود، ليتسنى لهم، في النهاية، إقامة هيكلهم المزعوم. بينما تاريخيا: معروف أنه يطلق على المسجد الأقصى وهو حصريا حق تاريخي وديني وثقافي للمسلمين، كامل الهضبة المسورة التي تبلغ مساحتها ١٤٠ دونما وبها مسجد الصخرة وساحات المسجد الأقصى المفتوحة، بالإضافة إلى المسجد الأقصى (القبلي) وملحقه المعروف بالرواق المرواني، الذي بناه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وجدد بناءه الناصر صلاح الدين، عندما حرر القدس من الصليبيين ودخلها (في ليلة المعراج ٢٧ رجب ٥٨٣ الموافق: ٢ أكتوبر ١١٨٧. ما يحدث في القدس، هذه الأيام، إنما هو صراع بين كيان يحظى بدعم العالم بأسره، عجزا وكرها وظلما، وبين ما تبقى في القدس وبين أكنافه من مرابطين ليس معهم إلا وعد الله بنصرهم على عدوه وعدوهم، مفعمين بإرادة ماضية بمقاومة الاحتلال وجبروته رغما عن من يدعمه ومن يعجز عن نصرتهم. إن ما يحدث في داخل المسجد الأقصى هذه الأيام، إنما هو تلخيص تاريخي للصراع بين العرب واليهود.. وهو، بالقطع، أحد معالم حركة التاريخ، التي في النهاية ستقود -حتما- إلى انتصار حرية الإنسان وكرامته على قوى الظلم والضلال والطغيان، تنفيذا لإرادة الحق جل وعلا (إِنَّا لَنَنْصُر رُسُلنَا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُوم الْأَشْهَاد).