بنسب متفاوتة.. يمكن القبول بتسييس أحداث متنوعة، إذا كانت ذات صلة بجوانب اقتصادية أو اجتماعية أو ما شابه ذلك، فهناك من سيعدها شطارة والبعض يراها مهارة للخروج بمكاسب تضاف للرصيد العام، لتحقيق الأهداف والطموحات التي تسعى لها هذه الدولة أو تلك. لكن أن يصل الأمر إلى الدين ومقدساته وحرمه وقبلة المسلمين، بحثا عن دور يخدم «أطماعهم» التوسعية وحلمهم بالهيمنة «الوهمية» على أطهر بقاع الأرض.. فهذا خلط رخيص وبأسلوب خبيث! فهؤلاء المغرضون لا يتوانون عن توجيه الإساءات المتكررة إلى المملكة العربية السعودية مع كل حادث في موسم الحج، إذ يجدونه فرصة سانحة للهجوم وبث السموم.. بعيدا عن الموضوعية والواقعية! فهم لا ينتظرون نتائج التحقيقات، وتهمهم جاهزة للتصدير، والهدف واضح، وهو تشويه صورة المملكة ووصفها بالتقصير! هذه المقدمة تبدو ضرورية، ونحن نتناول الحادث المؤلم الذي شهده مشعر منى، أول أيام عيد الأضحى المبارك، والذي أدى إلى وفاة «717» حاجا وإصابة 863 آخرين بسبب التدافع. لقد وفّرت المملكة العربية السعودية كل الإمكانيات التي من شأنها قيام الحجاج بأداء مناسكهم على خير وجه، لكن الأمور لا تسير على الدوام، كما يراد لها أن تكون. المسجد الحرام هو أعظم مسجد في الإسلام، ويقع في قلب مكة المكرمة، تتوسطه الكعبة المشرفة التي هي أول بيت وضع للناس على وجه الأرض، ليعبدوا الله فيه، وهذه هي أعظم وأقدس بقعة على وجه الأرض عند المسلمين. والمسجد الحرام هو قبلة المسلمين في صلاتهم، سمي بالمسجد الحرام لحرمة القتال فيه منذ دخول النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة منتصرا، والصلاة فيه تعادل مائة ألف صلاة. ولأهمية المسجد البالغة لدى المسلمين أوْلى الخلفاء الراشدون ومن بعدهم الحكام والملوك اهتماما كبيرا بتوسيع مساحة المسجد، نظرا لتزايد أعداد المسلمين في العالم، وكانت أول توسعة للمسجد في التاريخ على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عام 17 للهجرة ومن بعدها وحتى اللحظة لا تزال توسعة المسجد تتواصل. ومع الانتهاء من العمل بتوسعة الحرم المكي الشريف ستكون الطاقة الاستيعابية للحرم في ذروتها القصوى أكثر من ثلاثة ملايين مصلٍّ، و105 آلاف طائف حول الكعبة في الساعة الواحدة. والمتابع لمراحل التوسعات التي شهدتها أروقة المسجد الحرام خلال أكثر من 14 قرنا مضت يجد أنها شهدت نقلات معمارية كثيرة ومتنوعة على مر العصور، غير أن التوسعة الأخيرة للحرم المكي الشريف تعد عملا تاريخيا عظيما بتكلفة إجمالية تبلغ 40 مليار ريال، تعتبر الأكبر والأكثر تطورا وتوسعا أفقيا ورأسيا وخدميا، وتحظى بمتابعة دائمة من خادم الحرمين الشريفين ومن كبار المسؤولين في المملكة العربية السعودية، مع الإشارة إلى أن مجموع ما أنفقته حكومة المملكة العربية السعودية زاد على «70» مليار ريال في السنوات الأخيرة فقط، لإنجاز أعمال توسعة الحرم المكي الشريف باستثناء تكلفة المشروع الأخير. التوسعات التي تمت، لا يمكن إحصاؤها في مقال، والمملكة العربية السعودية عندما تفعل كل ذلك لأن هدفها السامي الوحيد هو السهر على خدمة الحجيج وتمكينهم من أداء مناسكهم بيسر وسهولة، لكن لا شيء يمكن أن يمنع الخطأ، والخطأ في الحادث المؤسف الأخير كان التدافع الذي أدى إلى ما رأينا، والذين وجهوا سهام انتقاداتهم للمملكة العربية السعودية الشقيقة، تجاهلوا عن عمد، ولأسباب مغرضة بالكامل، كل ذلك، ومن هؤلاء من هو عاجز عن تأمين مباراة في ملعب لكرة القدم يتسع لخمسين ألفا من الحضور، وقد رأينا خلال سنوات كثيرة، كيف عجز هؤلاء عن منع التجاوزات والمصادمات، وهم أنفسهم، للأسف الشديد، من يوجه الانتقاد اليوم، تدفعهم السياسة والنيات السيئة المبيتة. ما تفعله المملكة العربية السعودية ماثل للعيان، وما يقوله المغرضون لا يحتاج لرد، إذ إن الجهود السعودية كبيرة إلى درجة لا يمكن الحديث معها عن كل شيء، ويكفي من باب الإشارة إلى اهتمام المملكة الكبير بهذا الأمر اختيار ملوك المملكة للقب «خادم الحرمين الشريفين»، وفي ذلك أبلغ الدلالات، وأعمق الإشارات، على ما يحظى به الحجيج من رعاية واهتمام بالغين، والذين يحاولون استغلال الحادث المؤلم الأخير لا يفعلون أكثر من المتاجرة بدماء الضحايا، وهذا أسوأ ما يمكن أن يقترفه إنسان. ربما تكون هناك أخطاء، ومن يعمل بدأب وجهد وإخلاص، ويصل الليل بالنهار للسهر على مشاريع التوسعة، لابد أن تفوته مسألة هنا أو هناك، لكن الكارثة الأخيرة لم تكن بسبب مبنى متهالك، أو تصميم خاطئ، وإنما بسبب تدافع لا يمكن درؤه بحال من الأحوال، إذا أصر بعض الحجيج على السير في الاتجاه العكسي، متجاهلين كل الإشارات الإرشادية، إلا إذا افترضنا أن شرطيا يجب أن يرافق كل حاج وهو يؤدي مناسكه، وإن كنا نجد شيئا من هذا القبيل، حيث يتواجد أكثر من «30» ألف رجل أمن، مهمتهم تقديم المساعدة والتنظيم وإرشاد الحجيج، وقد رأينا صورا رائعة لهؤلاء وهم يمدون يد العون لكبار السن والصغار، ويقومون بكل ما يطلبه منهم الحجاج على أكمل وأحسن وجه، بالإضافة إلى آلاف المتطوعين فيما يعرف بالسقاية والرفادة، بإشراف مجموعة من الهيئات والأجهزة المحلية، وعلى رأس كل هؤلاء خادم الحرمين الشريفين، الذي يتواجد في مكة المكرمة للسهر على أمن الحجيج وتذليل كل العقبات. لست هنا بصدد ذكر مآثر المملكة وجهودها، فهي معروفة للجميع دون استثناء، إذ أن خدمة الحجيج ليست وظيفة بالنسبة لأشقائنا، بقدر ما هي واجب بذلوا الغالي والنفيس من أجل النهوض به، بأفضل طريقة ممكنة، ولا أحسب أن أي دولة في العالم مهما كانت قدراتها يمكن أن تستقبل ملايين البشر خلال فترة زمنية محدودة، وفي مكان جغرافي محدد بمساحات ضيقة، وتسهر على خدمتهم، يمكن أن تفعل شيئا لم تفعله المملكة. الشيء الآخر المهم، في هذا المقام، هو تلك الشفافية التي تتعامل معها المملكة العربية السعودية، حيال أي حادث، سواء عبر البيانات والمؤتمرات الصحفية، على أعلى مستوى، لنقل الحقائق أولا بأول، أو عبر تشكيل لجان تحقيق هدفها الرئيسي شرح الأسباب والوقائع، واستنباط العبر والدروس لمنع تكرار كل ما من شأنه تعكير صفو الحج. لقد رأينا خادم الحرمين الشريفين يوجه بسرعة التحرك، ورأينا ولي العهد يشكل لجنة تحقيق لتقديم صورة حقيقية لما حدث، وشاهدنا ولي ولي العهد يعود المصابين في المستشفيات، هذا التحرك على أعلى مستويات الدولة هدفه ليس الوقوف على الأسباب فحسب، لكن أيضا تداركها في المواسم المقبلة، وهو يضعنا في صورة الحقائق التي حاول البعض تجاهلها، لغاية في نفس يعقوب، وقد كان لافتا للغاية أن الجوقة التي وجهت سهام النقد للمملكة العربية السعودية، حتى قبل أن تتجلى الحقائق، إنما كانت تتحرك من أجل تشويه الصورة الحقيقية ومحاولة العبث بكل المنجزات العملاقة التي تحققت للتيسير على حجاج بيت الله الحرام. يمكن أن يكون مقبولا من أي جهة القول إن هناك أخطاء يتعين تصويبها، إن كانت هناك أخطاء، لكن ما رأيناه لم يكن من باب الإصلاح وإنما تحول إلى معول هدم وتدمير يستهدف عالمنا الإسلامي وليس المملكة العربية السعودية وحدها، وهو أمر مؤسف للغاية، والمؤسف أكثر منه أن تجد هذه الجهات المغرضة «عملاء» لها يتحركون في قلب العالم العربي، في قضية لا يمكن التعاطي معها بموضوعية قبل إعلان لجنة التحقيق ما وصلت إليه. لقد شهد موسم الحج خلال السنوات الأخيرة حوادث متفرقة، وبمعنى أدق فقد توفي حوالي «1696» حاجا، بسبب حوادث متفرقة منذ العام «1988»، أي طيلة ربع قرن، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد الحجاج بلغ خلال هذه الفترة حوالي «50» مليون حاج، فلنا أن نتخيل أن هذا الرقم لا يشكل أي نسبة مئوية على الإطلاق، بل إنه يقع في نطاق ضيق للغاية لا يرى بالعين المجردة بما نسبته «0.003392» في المائة. في حسابات النسبة والتناسب، فإن هذا الرقم محدود للغاية، لكن في حسابات المملكة العربية السعودية وحرصها على راحة الحجيج وأرواحهم فإن النسبة تعتبر كبيرة ولو كانت واحدا في المليون، لذلك رأينا تحركها على كل صعيد لإسعاف الجرحى والعناية بهم بأفضل طريقة ممكنة، حتى أنها وفرت سيارات إسعاف ومرافقين لجرحى حادثة الرافعة من أجل تمكينهم من استكمال مناسك الحج، مطمئنين آمنين، وهذا جوهر ما يمكن أن نخلص إليه، والذين «يصرخون» ضد المملكة اليوم تدل أعمالهم عليهم أينما التفتنا، لأنها تتم بفعل فاعل، وليس بسبب حوادث عرضية، كما حدث في مشعر منى. في اليابان.. تجعل الدعامات المعدنية الإضافية والمنصات المطاطية العملاقة وممتصات الصدمات الهيدرولية المختفية داخل الهياكل، لتجعل أبنيتها من أقوى المباني في العالم لمواجهة الكوارث الطبيعية، وتوضح هذه الإجراءات الاحترازية فضلا عن التدريبات على الزلازل والتسونامي، التي اعتادها المواطن الياباني، أنها من أكثر دول العالم استعدادا لمواجهة الزلزال والتسونامي عندما يحدثا معا. عام «1996» وقع زلزال «كوبي»، وأسفر عن مقتل ستة آلاف وإصابة «26» ألفا، ولولا أن اليابان كانت مستعدة ومهيأة لمواجهة الزلازل فلربما كانت الكارثة أسوأ. منذ أربع سنوات (2011) ارتفع البحر قبالة سواحل اليابان ومحا حياة الآلاف من البشر في واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية التي عرفها التاريخ الحديث. يقول كيت مياموتو، أحد المهندسين اليابانيين: «لقد هجم التسونامي على السدود في مدينة سنداي وأطاح بالسيارات ومعدات الزراعة قبل أن يعكس اتجاهه ويحملها إلى البحر، لكن ريتش أيسنار، الخبير المتقاعد في الاستعداد للتسونامي الذي حضر مؤتمرا عن هذا الموضوع في المعهد القومي للمعايير والتكنولوجيا في مدينة جايثرسبرغ بولاية ميريلاند الأميركية، أوضح أنه يمكن لـ«برنامج التوعية الحكومي الشامل» في اليابان أن ينقذ حياة الكثيرين. الكوارث الطبيعية لا يمكن منعها، وكل ما يفعله الإنسان هو التقليل من آثارها المدمرة، عبر التنبؤ باحتمالاتها، والاستعداد لها، وما قاله أيسنار هو إحدى الوصفات المهمة للغاية: زيادة الوعي. وفي قلب أوروبا.. انهارت مدرجات ملعب هيسل في بروكسل أثناء نهائي كأس أوروبا بين ليفربول ويوفنتوس وراح ضحية الحادث 39 مشجعا لقوا حتفهم وأصيب حوالي 600 والسبب في ذلك أن جماهير ليفربول كسرت السياج الفاصل وتقدمت بهمجية باتجاه جمهور اليوفنتوس، فحدث تدافع رهيب ودهس، مما زاد الضغط على الجدار الجانبي حتى انهار.. وانهار معه جزء من المدرجات! نضرب هذين المثالين من اليابان وأوروبا حتى نخاطب بعض المنتقدين والمتفذلكين من مدعي الثقافة والتطور والحداثة والذين لا يفوتون فرصة توجيه الانتقادات للمملكة وهم يحتسون الكابتشينو من مقاهي لندن وباريس وليسوا متطوعين في الحرم ومنى ومزدلفة.. لنقول لهم إن غياب الوعي تسبب في كارثة اليابان والفوضى وعدم الالتزام بالنظام تسبب في انهيار ملعب هيسل.. لذلك يجب ألا يكون التنظيم هو السبب وحده.. فالمشاركون أيضا عليهم دور أساسي في زيادة الوعي والتقيد بالأنظمة.. وإلا فإننا مستقبلا سنحمل الشرطة المسؤولية لو وجدنا شخصا منتحرا في غرفته.. لأنها لم تمنع وجود الحبال في الأسواق ولم تركب كاميرات مراقبة في الغرف!! عاصمة الحزم.. تزداد عزما.. على المضي قدما في خدمة الإسلام.. فهي في اليمن أطلقت «عاصفتها» الحامية لردع المعتدين.. وفي الحرم تضفي بـ«عاطفتها» الحانية على كل المسلمين. الوطن القطرية رئيس تحرير الوطن القطرية*