أبوظبي منّي بونعامة: يوصف هذا الوقت الراهن في الكتابات والمتابعات الأدبية والنقدية بزمن الرواية العربية التي أصبحت تزاحم مكانة الشعر وتتفوق عليه، بل ثمة من يسمي الرواية اليوم بديوان العرب. وبقطع النظر عن مدى مصداقية هذه التسمية ووجاهتها في واقع الرواية العربية اليوم، إلا أن الذي لا شك فيه أن التجارب السردية العربية تختلف من بلد إلى آخر بحسب التراكم الذي حققه هذا البلد أو ذاك، ومدى قدرة كتابه ومبدعيه على اقتحام عوالم سردية رحبة والتعبير عن قضاياه الكبرى، وكذلك مستوى توظيف الأدوات السردية وتقنيات الكتابة وأسلوبها، ما يجعل لكل تجربة خصوصيتها الفارقة التي تختلف، بالضرورة، عن غيرها. في التجربة السردية اليمنية ثمة مسارات واضحة المعالم طبعتها بطابعها الخاص، كما تعكس أبرز المحطات التي مرت بها هذه التجربة، حيث عرفت منعطفاً مهماً خلال السنوات الأخيرة لم تألفه منذ بدايتها في أواخر عشرينات القرن الماضي إلى اليوم، تجاوزت على غراره عقدة الرواية اليتيمة إلى التجربة الروائية المتكاملة للكاتب ويمكن أن يتم تفحص ملامحها من خلال أعماله، ويمكن استحضار عدد من أعمال الكتاب اليمنيين في هذا السياق من أمثال وجدي الأهدل، حبيب عبد الرب سروري، أحمد زين، علي المقري، سمير عبدالفتاح وغيرهم كثير ما ينم عن توجه واضح نحو الكتابة الروائية بوصفها ممارسة إبداعية متصلة. وهناك ملامح رافقت تلك التحولات وواكبتها من بينها انتقال الرواية اليمنية من الموضوعات التقليدية إلى الانشغال والاشتغال بقضايا كبرى تلامس عمق حياة الناس وتعبّر عن مكنون التحول والتغير الحاصل على صعيد الكتابة، من ذلك عناية الكتاب بطرح مواضيع جديدة من قبيل الحديث عن الثورات والتأريخ لها، والهجرة..وهناك يمكن الإشارة إلى رواية (رجال الثلج) لعبد الناصر مجلي التي تصب في المنحى التجديدي نفسه وموضوع الهجرة على وجه الخصوص. ثمة ملمح آخر لا يقل أهمية عن سابقه يتمثل في الإفصاح عن أعمال روائية جديدة تغوص في عمق قضايا المهمشين، وقد تجلت مظاهر هذا الاهتمام في الخطاب الروائي النسوي الذي يعتبر الجذوة التي أذكت فتيل هذا التوجه، ويمكن استحضار نماذج روائية نسائية واعية بالمتغيّر من أمثال نبيلة الزبير، عزيزة عبد الله، نادية الكوكباني، وهو نموذج آخذ في الاتساع والانفتاح على تجارب جديدة مع هند هيثم، وبشرى المقطري، وندى شعلان، وغيرهن. ولم يفتأ هذا الخطاب السردي المعبّر عن المهمشين يتوسع ويتمدد في النظرة والمعالجة إلى أن شمل التركيز في الحديث عن الآخر كما نلحظ في رواية علي المقري (طعم أسود.. رائحة سوداء)، وقبله لم يكن ظهور له إلا على استحياء كما في روايتي (ركام وزهر) ليحيى علي الإرياني وغيره. كما عالجت الرواية اليمنية موضوع الإرهاب وتجلياته كما في رواية (السمار الثلاثة) لسعيد عولقي في نهاية الثمانينات، ورواية (الملكة المغدورة) لحبيب عبد الرب سروري. إن هذا الوعي الكتابي المتجذّر في الرواية اليمنية، والذي صاحب متغيراتها عبر عقود من الزمن، فتح أبوابه مشرعة على التجريب من خلال الاتكاء على شكل روائي مبني على صيغ سردية محكمة وتقنيات وأساليب متقنة تعالقت مع التاريخ والتراث وغيرهما، ومثال ذلك (مأساة واق الواق) لمحمد محمود الزبيري، وروايتي (صنعاء مدينة مفتوحة) لمحمد عبد الولي، و(ركام وزهر) ليحيى علي الإرياني وغيرها كثير. ويقدّم الكاتب الدكتور عبد الحكيم محمد صالح باقيس في كتابه ثمانون عاماً من الرواية في اليمن قراءة في تاريخية تشكل الخطاب الروائي اليمني وتحولاته، متوقفاً عند ثلاثة مسارات سردية شكّلت خلاصة التجربة الروائية اليمنية، وتبدأ هذه المسارات بالبواكير الأولى للكتابة السردية في اليمن، حيث الرعيل الأول من جيل الرواد الذين أسسوا المشهد الروائي اليمني وطبعوه ببصماتهم الفارقة، وتتصدر تجارب هذا الجيل رواية (فتاة قاروت) لأحمد عبد الله السقاف، التي تعدّ أول رواية يمنية، ورواية (سعيد) لمحمد على لقمان بين عامي 1939 و1940، ورواية (كملاديفي) للقمان أيضاً في 1947، ثم رواية (يوميات مبرشت) للطيب أرسلان في عام 1948، وروايات علي أحمد باكثير (سلامة القس 1944، وإسلاماه 1945، الثائر الأحمر 1949، سيرة شجاع 1955، الفارس الجميل 1965)، ورواية (حصان العربة) و(مذكرات عامل) كلاهما لعلى محمد عبده و(مأساة واق الواق) للشهيد محمد محمود الزبيري. وعلى الرغم من التباين الشاسع والفارق الكبير في مستويات التقنية السردية والأسلوب الفني الروائي الذي يميز كل رواية من تلك الروايات فضلاً عن موضوعها، إلا أنها وظفت، في مجملها، كما يؤكد، باقيس في تمرير الخطاب الفكري لذلك الرعيل، كما اعتورها ما يعتور البدايات من نقص الأدوات وتواضع البناء السردي. المسار الثاني وهو الرواية الواقعية، ومن أبرز روادها محمد أحمد عبد الولي، ولعل ما يميز هذه التجربة السردية هو تعدد اهتماماتها، فهناك كتاب من أصحاب الرواية الواحدة من بينهم محمود صغيري، محمد حنيبر، زيد مطيع دماج، وسعيد عولقي، وهناك كتّاب كتبوا أكثر من رواية من بينهم محمد أحمد عبد الولي، حسين سالم باصديق، ويحيى علي الإرياني، ومحمد مثنى. ويشير باقيس في هذا المضمار إلى أن محمد عبدالولي يعتبر من رواد هذا الجيل الواقعي لا سيما في روايتيه (يموتون غرباء) عام 1971، و(صنعاء مدينة مفتوحة)، التي نشرت في عام 1978، كما يؤكد باقيس كذلك على أن هذه التجربة الواقعية تمتد إلى نهاية القرن العشرين، وتمثل رواية (السمار الثلاثة) لسعيد عولقي علامة فارقة فيها. أما المسار الثالث فيتمثل في جيل الرواية الجديدة لكوكبة من الكتاب الذين اكتسبوا خبرة ومراساً على الكتابة الروائية في اليمن وتميزوا بأساليبهم المائزة التي أفادوا فيها من خلاصات تجارب عربية وعالمية، ما أسهم في تحقيق قدر كبير من التطور والتغير الذي لامس عمق النص الروائي وبنيته وأسلوبه ومضمونه، فلم يعد الخيال لدى هذا الجيل المعيار الأوحد في البناء السردي، بل لا بدّ من أن يمتلك الكاتب ثقافة عالية وخبرة قوية تؤهله لارتياد عوالم السرد الروائي وهذا ما تحقق بالفعل لأصحاب هذا الجيل المتسلّح بمهارات كتابية متميزة. ويتصدر قائمة كتاب هذا الجيل حبيب عبد الرب سروري بروايته (الملكة المغدورة) 1999، ونبيلة الزبير (إنه جسدي). وقد شهدت الرواية اليمنية في السنوات التالية طفرة عجيبة سواء على المستوى الكمي أو الكيفي، وأفاد كتاب هذه المرحلة من التراكم التاريخي والثقافي الذي حققته الرواية على مدى العقود السابقة، والأجواء العامة في اليمن بما فيها من سياسة وثقافة.. مواكبة للتغيرات التي شهدتها هذه الفترة، ولعل كل ذلك ما حدا بباقيس في مقاربته للرواية اليمنية إلى اعتبار هذه المرحلة (مطلع القرن الواحد والعشرين) العقد الذهبي للرواية اليمنية، بعد أن انفرط عقدها الفضي بعد عبد الولي ودماج وسعيد عولقي.