يرسم الإسلام طريقاً آمناً للعلاقة الزوجية، ويحيط علاقة كل زوجين بإطار أخلاقي يوفر لهما الحياة السعيدة، ويواجه كل ما يعترضهما من مشكلات وأزمات طارئة، ويضبط مشاعر الغيرة المتبادلة بينهما حتى تؤدي أهدافها الطبيعية بعيدا عن الشكوك والأوهام وسوء الظن الذي يفسد العلاقة بين الزوجين. والسؤال هنا: ماذا قدم الإسلام لضبط الغيرة الزوجية لكي تستمر العلاقة بين الزوجين بعيداً عن الشكوك والظنون والانفعالات العاطفية التي لا تستند إلى حقائق وبراهين قوية؟ طرحنا السؤال المهم على عدد من علماء الإسلام والطب النفسي، وهذه خلاصة ما قدموه من نصائح وتوجيهات للأزواج والزوجات: في البداية يؤكد د. أحمد جمال أبو العزايم استشاري الطب النفسي أن الغيرة الزوجية سلاح ذو حدين، فهي مطلوبة ومرغوبة وضرورية لكل زوجين لو كانت في إطار معتدل، حيث يشعر كل طرف باهتمام الطرف الآخر به وتمسكه بأن يكون هو شريك الحياة الوحيد. ولذلك فالغيرة المعتدلة أمر مطلوب بين الزوجين، لأن الحياة الزوجية عندما تخلو من الغيرة، تخلو من الشعور بالاهتمام والحب والرغبة في الاحتفاظ بالطرف الآخر، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى إفساد العلاقة الزوجية أو توترها. الغيرة المفرطة ويشير د. أبو العزايم إلى أن عيادات الطب النفسي تستقبل حالات كثيرة من الزوجات اللاتي تكون شكواهن الأساسية عدم اهتمام الأزواج بهن وعدم الغيرة عليهن. لكن الغيرة المفرطة التي تنقلب إلى شكوك وظنون نتيجة الأوهام التي تسيطر على عقول بعض الأزواج والزوجات هي في واقع الأمر غيرة مرضية مؤذية مطلوب من كل زوجين ينشدان الاستقرار والسعادة مقاومتها بكل ما يملكان من عقل وحكمة، لأنها قد تكون سببا رئيسيا في تدهور العلاقة بين الطرفين. ولأن الغيرة المبالغ فيها تؤثر سلبا على العلاقة بين الزوجين وتسمح للشكوك والظنون بأن تسري بينهما ينصح استشاري الطب النفسي بضرورة الاعتدال وعدم الشك في سلوك كل منهما من دون وجود ما يستدعي ذلك، ويقول: الغيرة الزوجية المفرطة تدفع إلى سلوكيات كثيرة مرفوضة، وهي سبب لكثير من حالات العنف المتبادل بين الزوجين، وقد ينتهي الشجار بين الزوجين بسبب شك أحدهما في سلوك الآخر إلى جريمة قتل أو إصابة مزمنة، والكثير من حالات الشك تنتهي بالطلاق وقد يحدث ذلك في بداية الحياة الزوجية فتكون النتائج المترتبة على ذلك أقل خطرا من النتائج المترتبة على الانفصال بين زوجين بينهما أطفال. ويرى استشاري الطب النفسي أن الغيرة المرضية ضارة بالأسرة والمجتمع وليس بالزوجين فقط، حيث تترتب عليها نتائج سيئة لأطراف آخرين غير الزوجين، مشيراً إلى أن المجتمع السوي لا يعرف العلاقات العاطفية غير الشرعية، وكلما زاد الانفلات السلوكي وتعددت صور الخيانة بين الزوجين تعرضت الأسرة للانهيار الأخلاقي، مشيراً إلى أن بعض الزوجات أقمن علاقات غير مشروعة مع آخرين بسبب الشك في سلوك أزواجهن وتوهم وجود علاقة بينهم وبين أخريات، وهنا يدفع الشك المتبادل بين الزوجين إلى خيانات ونتائج كارثية. حسن الظن الفقيه الأزهري د. نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر يؤكد أن الإسلام أقام العلاقة الزوجية على الثقة وحسن الظن، وتلك الثقة كلما كانت موجودة بين الطرفين أصبحت حياتهما عامرة بالمودة والرحمة والسعادة والاطمئنان، ويقول: القرآن الكريم أمرنا بحسن الظن ما دام الأمر يقتضي ذلك، ونهى عن سوء الظن من دون مبرر أو موجب فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سوء الظن بصفة عامة، وبين الزوجين بصفة خاصة، فقال ناصحا وموجها الأزواج إلى سلوك حضاري كريم: إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا، يتخونهم أو يلتمس عثراتهم. روي أن أعرابياً جاء إليه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود وإن أنكرته (أي شككت في نسبته إليّ) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم.. قال ما ألوانها؟ قال: حمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: هل فيها أورق؟ (أي: هل فيها ما يميل لونه إلى السواد؟) فقال الرجل: نعم.. فقال له الرسول: فكيف ترى ذلك جاءها؟ فقال: يا رسول الله: عرق نزعها (أي: يحتمل أن يكون في أصولها ما هو بهذا اللون) فقال له صلى الله عليه وسلم: ولعل ابنك هذا نزعه عرق، فهذا التوجيه النبوي الشريف يهدف منع هذا الرجل من أن يظن بأهل بيته سوءاً. ومن هنا فإن د. واصل يؤكد أن الغيرة المعتدلة مرغوبة شرعا، لكن إساءة الظن بالآخر واتهامه بما لم يثبت عليه ظلم لا ينبغي أن يكون له وجود بين الزوجين، فقد أراد الله أن تكون العلاقة بين الزوجين علاقة متينة مبنية على الثقة المتبادلة، بعيداً عن الشكوك والظنون والأوهام. سلوك فطري وتتفق د. مهجة غالب عميدة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالأزهر مع د. واصل في أن الغيرة سلوك فطري لا يصادره الإسلام ولا يقف في طريقه، مادام عند حدوده المقبولة، وبعيدا عن سوء الظن، وتقول: من الطبيعي أن يغار الرجل على زوجته والذي لا يغار هو شخص غير طبيعي، وعلينا أن ندرك أن حق كل زوج أن يكون وحده محل اهتمام زوجته، وأيضا حق كل زوجة أن يكون زوجها لها وحدها، فالغيرة في حقيقتها انفعال نفسي يترجم رغبة الشخص في أن يكون وحده موضع الاهتمام ممن يغار عليه والغيرة شعور نفسي طبيعي جداً لا عيب فيه ما دام في الحدود العادية المعقولة إذا كان من الزوج على زوجته، بل إن عدم الغيرة والتعود عليه قد يؤدي إلى نوع من تبلد الأحاسيس وبرود العاطفة، وهذا بدوره قد يؤدي إلى رؤية مواقف أو تصرفات من بعض النساء يرفضها الشرع كخلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها، أو الوجود معه في مواقف مريبة، فالغيرة الطبيعية التي لا مغالاة فيها ولا مبالغة مع كونها معبرة عن حب الزوج لزوجته والتمسك بها والحرص عليها، فإنها أيضا منبهة للزوجات ألا يضعن أنفسهن في مواقف تدعو الأزواج إلى الغيرة. ومن هنا تدعو د. مهجة كل زوجين إلى تجنب مواطن الشبهات حتى يقضيا على الشكوك والظنون، مؤكدة أن السلوك السوي لكل من الزوج والزوجة يوفر مناخاً لعلاقة آمنة ومستقرة بينهما. وتقول: هناك جانب مهم في علاقة كل من الزوجين بالآخر، وهو الغيرة المعتدلة والحفاظ على الكرامة والشرف، فكل من الزوجين مطالب شرعاً بالحفاظ على سمعة الآخر، والغيرة عليه باعتدال ومن دون شطط وتهور وتسرع في الظنون والاستسلام للأوهام، فالذي لا يغار على شريك حياته هو إنسان متبلد الحس فاقد الشعور الطبيعي، ومن طبيعة الزوجة السوية أن تغار على زوجها، وكذلك الزوج السوي يغار على زوجته، لكن هذه الغيرة يجب أن تكون في حدود الاعتدال ولا تكون مدخلا لسوء الظن وتوجيه التهم الكاذبة أو ترديد الشائعات الباطلة، فالزوج الذي يسيء الظن بزوجته ويتهمها في شرفها من دون بينة هو زوج ظالم يرتكب سلوكا محرما، وكذلك الزوجة المتهورة المتسرعة التي تحيط زوجها بالشكوك والظنون من دون مبرر. صفة إنسانية راقية د. محمد نبيل غنايم أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة يرى أن الغيرة المعتدلة مشاعر سوية وخلق كريم جبل عليه الإنسان السوي الذي كرمه ربه وفضله، وقد أعلى الإسلام قدرها وأشاد بذكرها ورفع شأنها حتى جعل الدفاع عن العرض والغيرة على النساء جهادا يبذل من أجله الدم، ويضحي في سبيله بالنفس، ويجازى فاعله بدرجة الشهيد في الجنة، ويقول: أشد ما تظهر فيه هذه الصفة يكون بين الزوجين لأن هذه الغريزة يشترك فيها الرجال والنساء بل قد تكون أكثر وأشد لدى النساء. وتتأجج مشاعر الغيرة الزوجية أكثر إذا أحست المرأة بخيانة زوجها أو بتطلعه للأخريات، وقد تثور تلك الغيرة عند الرجل إذا شك في سلوك زوجته، ولأن الإسلام دين العدل بين الناس جميعا ويقيم علاقة الزوجين على العدل والمودة والرحمة فهو يطالب بالاعتدال في الغيرة بالنسبة للرجال والنساء، والمعاشرة بالمعروف تقتضي ذلك، ويجب على كل طرف أن يقدر غيرة صاحبه عليه وما من أمر إلا وله طرفان ووسط، ولابد أن نعلم جيدا أن الغيرة في موضعها مظهر من مظاهر الرجولة الحقيقية، وفيها صيانة للأعراض، وحفظ للحرمات، لكن من دون توجيه اتهامات ظالمة، فالشك المفرط في سلوك أي من الزوجين ظلم يرفضه الإسلام. ويضيف د. غنايم: إن الغيرة المعتدلة لها آثار ونتائج إيجابية على علاقة كل زوجين، فهي وسيلة لحماية الأسرة والمجتمع، وقد تكون غير ذلك إذا اتصفت بالحماقة وسوء التصرف، ولذا ينبغي على كل زوجين ضبط الشعور بالغيرة بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقياته، فالغيرة المعتدلة تحمي البيت المسلم من برود المشاعر وبلادة العواطف. وعلى كل زوجين أن يدركا أن الغيرة صفة إنسانية راقية ما دامت في إطارها الأخلاقي المقبول وكانت بعيدة عن سوء الظن والاتهامات الظالمة، وأن يتجنبا مواطن الشبهات، وعليهما أن يتذكرا دائماً قول الله تعالى: يا أيها الناس اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، فالاعتدال في الغيرة ضرورة حتى لا تخرج عن حدودها فتصبح رمياً بالكذب وضرباً بالبهتان وقذفاً تتكدر معه الحياة الزوجية وتصبح خانقة وتنقلب إلى جحيم لا يطاق، فكم دمرت الظنون الكاذبة غير المعتدلة بيوتاً كثيرة كانت عامرة بالحب والمودة والثقة المتبادلة بين الزوجين.