قبل خمسة أشهر خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات التشريعية في تركيا. وبعد خمسة أشهر ربحها وهذا يعني أن الناخب التركي الذي عاقب الحزب الحاكم على سياسته في الحكم خلال دورة تشريعية كاملة غير رأيه في خمسة أشهر، وعاد ليبارك السياسة نفسها ويمنح الحزب فرصة ليس فقط للحكم منفرداً لدورة تشريعية جديدة وإنما أيضاً لتعديل الدستور وبالتالي تغيير نظام الحكم. كيف ولماذا حدث ذلك؟ تستدعي الإجابة الرجوع إلى ما بعد إعلان نتائج انتخابات حزيران/ يونيو الماضي التي انطوت على معاقبة العدالة والتنمية بحرمانه من الأغلبية البرلمانية الضرورية لتشكيل الحكومة منفرداً وفتحت الباب أمام تشكيل وزارة ائتلافية. ناور الحزب بطريقة ذكية عندما وضع الأحزاب الأخرى أمام خيارين أحلاهما مر، الأول هو المشاركة في حكومة تحت قيادته مع تنازلات طفيفة للأحزاب الأخرى. والثاني هو الانتخابات المبكرة. في الخيار الأول ما كان بوسع الأحزاب الفائزة في الانتخابات الاشتراك في حكومة يقودها أردوغان وقد نالت أصوات ناخبين فقدوا ثقتهم بسياسته. في الخيار الثاني تعود الأحزاب المعارضة إلى صناديق الاقتراع ضعيفة بسبب عدم قدرتها على الائتلاف وتشكيل حكومة بديلة للعدالة والتنمية. والأسوأ من ذلك أنها تعود بلا رهان انتخابي واضح ما يجعل الناخب في حالة من ارتباك وحيرة، فهو إن أعطاها ثقته لن تكون قادرة على تشكيل حكومة من دون العدالة والتنمية الذي لا يريد أن يشاركه أحد في الحكم وإن حجب الثقة عنها يقوي الحزب الحاكم وبالتالي يعينه على الإمعان في سياسة لا يريدها ناخبو حزيران. هكذا بدت رهانات الانتخابات المبكرة وكأنها تسير في اتجاه واحد لمصلحة حزب أردوغان. بعد أن تم وضع الناخبين أمام طريق مسدود بادر الحزب الحاكم إلى تخويفهم من خطري "داعش" وتفكيك الوطن. والواضح أن جهة ما ساعدته في أداء هذه اللعبة على أكمل وجه وبخاصة قبيل الاقتراع عبر تفجير تظاهرة للمعارضين أدت إلى سقوط عشرات القتلى وتبنتها داعش وكان من نتيجتها تعذر المهرجانات الانتخابية الجماهيرية المفتوحة للمعارضين خوفاً من انفجارات جديدة، في حين واصل الحزب الحاكم مهرجاناته العامة التي كان يحميها بوسائل الدولة الأمنية وفي ذلك رسالة ضمنية مضمونها أن الاقتراع للمعارضة يعني المزيد من التدهور الأمني فيما الاقتراع للعدالة والتمنية يعني توفير الأمن والاستقرار. الخوف الأمني سيردفه ترهيب من خطر تفكيك البلاد عبر الانشقاق الكردي وهنا كانت اللعبة أكثر وضوحاً فبعد الهزيمة الانتخابية شنت الحكومة حملات عسكرية قاسية ضد الأكراد وتوقفت عن التفاوض مع حزب عبد الله أوجلان وأشرفت على حملة إعلامية واسعة حول خطر الانشقاق الكردي وتفتيت الأمة التركية. ما من شك في أن حزب العدالة والتنمية استفاد من التدهور الاقتصادي الطارئ في الشهور الماضية وبخاصة تراجع قيمة الليرة التركية بنسبة كبيرة حتى صارت المعادلة: خسارة العدالة والتنمية تعني الانهيار الاقتصادي وعودة البلاد إلى ما قبل القفزة التنموية وارتفاع القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود خلال العقد الفائت. ويمكن في هذا السياق أن نضيف الصوت الألماني الثمين في صندوق العدالة والتنمية، إذ ارتأت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تقترع لصالح أردوغان، فقد التقت به خلال الحملة الانتخابية ووعدته باستئناف المفاوضات المجمدة لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وهذا الوعد مهم للغاية إذا ما علمنا بأن مجمل النهضة الاقتصادية التركية ناجمة عن الاتفاق الجمركي مع أوروبا والعلاقات الخاصة بين تركيا والاتحاد الأوروبي فما بالك إذا صارت أنقرة عضواً في نادي الأغنياء. الراجح أن رجال الأعمال وكبار الاقتصاديين الأتراك كانوا يراهنون على مثل هذه الخطوة وبالتالي من غير المستبعد أن يكونوا قد بذلوا جهوداً مهمة في تعبئة المقترعين لصالح الحزب وهذا كله يعني أن أردوغان استخدم العصا والجزرة بمهارة فائقة وحقق فوزاً قاطعاً في الانتخابات التي صار فيها الناخب التركي العادي أمام خيار وحيد تقريباً مفاده أن الاقتراع للعدالة والتنمية ينقذ تركيا، والاقتراع لغيره يؤدي إلى غرقها ما يفسر نسبة الفوز المرتفعة. إن اجتماع الخوف الأمني والخوف القومي إلى جانب الخوف من التراجع الاقتصادي لعب دوراً حاسماً في عودة الحزب بقوة إلى السلطة، وما كان لهذه اللعبة أن تنجح لولا ضعف مؤسسات الرقابة على الحكم ولا سيما وسائل الإعلام والقضاء وبخاصة الجيش الذي كان يلعب دوراً تحكيمياً في العملية السياسية. فقد تمكن أردوغان من إضعاف أو تحييد هذه المؤسسات وآخر محاولاته تمت قبل الاقتراع بأيام حيث أغلق محطتي تلفزيون تابعتين للمعارضة وكان خلال العقد الماضي قد بسط سلطته على الجيش والقضاء والمؤسسات الإعلامية الكبرى. تبقى الإشارة إلى مباركة الأوروبيين والولايات المتحدة لهذه الانتخابات وهي التي تمنح في العادة صكوكاً في الديمقراطية واحترام الحقوق، والراجح أنها ستغض الطرف عن الخروقات التي تمت وبخاصة عمليات التزوير واسعة النطاق لصالح حزب العدالة والتنمية فأردوغان لاعب مهم في سوريا والعراق وبوسعه أن يضغط على أوروبا والعالم بواسطة اللاجئين إلى الأراضي التركية أو الإرهابيين الذين يرغبون في العودة إلى بلادهم الأصلية عبر البوابة التركية. في خطابه الانتصاري مساء الأحد الماضي أمام أنصار الحزب حيا داوود أوغلو المشاهدين في قونيا عاصمة السلطنة السلجوقية وفي بيروت وباكو وطشقند وبغداد والقاهرة وكأنه يشير إلى رموز الإمبراطورية التي يطمح بنشر نفوذه فيها وذلك بعد تغيير النظام الحالي إلى رئاسي بولاية سباعية لمرتين وبذلك يكون أردوغان قد أمضى 30 عاماً في حكم تركيا ولا شيء يمنعه من الحكم سلطاناً لمدى الحياة إذا ما سار على خطى نابليون الثالث في فرنسا الذي انتخب رئيساً للجمهورية الثانية وغير دستور بلاده بعد انتخابات على الطريقة التركية ليصبح إمبراطوراً...