×
محافظة المنطقة الشرقية

السدراني لـ الشرق: إصلاح تسرب المياه في مستشفى الملك فهد

صورة الخبر

في مقالة تعود إلى الثلاثينات من القرن العشرين، كتب الدوس هكسلي عن آل غريكو، ملاحظاً أن الأشخاص في لوحاته يبدون دوماً وكأنهم في بطون الحيتان، ويصرخ الكاتب البريطاني فزعاً: إنها فكرة غريبة بل أمر رهيب.. أن يتواجد المرء في سجن أحشائي. وقد كُتبَ لهذه الملاحظة أن تغدو الصورة الرمزية الأشهر في السجال المستمر حول موقع الكاتب من العالم، وعبر العقود التالية انضم عدد كبير من الكتاب إلى استخدام رمز (يونس في بطن الحوت)، منقسمين في الإجابة حول الموقع الأمثل لوجود الكاتب: في بطن الحوت محمياً من تيارات المحيط الصاخبة ليتسنى له المراقبة بهدوء وروية، أم خارج الحوت، في خضم الأمواج، منخرطاً كبقية (الأسماك البشر) في صراعات العالم، المحيط؟. عندما انضم هنري ميللر إلى النقاش، في سياق تعليقه على مذكرات الكاتبة أناييس نن، فإنه، على خلاف هكسلي، أبدى استحساناً لاختباء صديقته في بطن حوت، معتبراً إياها فكرة مريحة ودافئة، وعلى الأقل فإن هناك أموراً أسوأ بكثير من أن تبتلع من قبل الحيتان. على كل، يبدو أن ميللر نفسه كان سعيداً في سجنه الأحشائي، وحسب بعض النقاد فنتاجات ميللر كانت تشير إلى أنه كان مسترخياً في بطن الحوت ولسان حاله يقول: ها أنت في العتمة، فضاء لين يناسبك تماماً، مع ياردات من الشحم تفصل بينك والواقع، قادر على الاحتفاظ بموقف من اللامبالاة التامة. غير أن هذا السجال شهد خفوتاً ملحوظاً بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعي مع ما نجم عنه من تيارات ومدارس أدبية وفكرية، ولم يظهر إلا في مناسبات متباعدة، ربما أبرزها تلك الضجة التي أثيرت حول الانخراط العملي المباشر لإدوارد سعيد في أنشطة سياسية تخص القضية الفلسطينية. عربياً سجلت الساحة الثقافية أصداء باهتة لهذا الجدل، ولا غرابة في ذلك طالما أن مدارسنا الأدبية واتجاهاتنا الفكرية كانت مجرد نسخ عن أصول عالمية. والفارق المحلي هو أن النقاش هنا كاد يختزل في سؤال وحيد: علاقة الكاتب بالإيديولوجيا، وهو ما تجسد في مسألة ثقافية عربية سادت طويلاً: الالتزام. وبغض النظر عن الإجابات النظرية، فواقع الحال جعل الأدباء والمثقفين العرب يتوزعون على ثلاث إجابات عملية: فأولاً هناك الذين عملوا موظفين في أجهزة السلطة أو لدى الأحزاب والمنظمات السياسية المختلفة، يترجمون رغباتها ومصالحها في كبسولات دعائية وشعارات فارغة، متحولين إلى رجال دعاية أكثر من كونهم مثقفين. وثانياً هناك الأدباء والمثقفون الذين دفعتهم عزلتهم عن السياسة، ونأيهم عن التأثير في المجتمع، إلى نوع من افتقاد الحس التاريخي والعجز عن فهم متغيرات الواقع واستيعاب مستجداته، فراحوا يبررون هذا القصور باللجوء إلى التعالي على السياسة وشؤونها ف السياسي يهتم بالجزئيات والشؤون الإجرائية، فيما هم أمناء على الكليات والضرورات الكبرى والسياق العام للتاريخ، وبدافع من هذا الوهم كانوا ينتجون خطابات إنشائية لا تقول شيئاً فعلياً، أو طروحات فنتازية اقترب بعضها من حد الهزل. وثالثاً أولئك الكتاب المستقلون الذين أبدوا انشغالاً جدياً بالعالم من حولهم، وأنتجوا نصوصاً عميقة وراهنة، ولكنهم همشوا بفعل المزاج السياسي الطارد الذي كان سائداً.. وماذا عن الآن، حيث تمور أرضنا العربية بحركات طوفانية وانفجارات غير مسبوقة، قلبت المعادلات الراسخة وغيرت كثيراً من الرؤى والأفكار، وتوشك أن تعيد رسم الخرائط؟. أين سيقف الكتاب في هذا البحر الهائج.. داخل الحوت أم خارجه؟. في كتابه (لماذا أكتب) يلاحظ جورج أورويل أن الكتاب إذ يواجهون عملية تاريخية ما، فإنهم يتوزعون عادة على ثلاثة مواقف: إما أن يتجاهلوها، أو أن يكافحوا ضدها، إضافة إلى أولئك القائلين (نعم) والذين يقفزون إلى الأمام محاولين تصدر هذه العملية. تبدو ملاحظة أورويل قابلة للاستخدام في وضعنا الراهن، وإذا كان الوقت لم يتح بعد للمبدعين والمثقفين العرب خوض نقاش نظري حول موقعهم من المستجدات التاريخية، فإنهم بالفعل توزعوا على المواقف (الأورويلية) الثلاثة. هناك من يكافح ضد هذا التغيير العارم، مسكوناً بالحنين إلى الاستقرار المريح والذي يعفي من المسؤولية والخيارات الصعبة، أو مهوساً بالخوف من القادم، أو خائفاً على موقع ودور قد لا يعوضان. وهناك من قفز إلى الأمام محاولاً تصدر المقدمة، عن إيمان وقناعة، أو عن توهم التشبث بالمستقبل والسير في ركاب التاريخ.. غير أن لا هؤلاء ولا أولئك أتيح لهم بعد إنتاج نصوصهم التي تترجم خياراتهم وتشرح رؤاهم، كما أن التغييرات الجارية لم تصل بعد إلى مستقرها، الشيء الذي لا يتيح لنا مساءلتهم والحكم عليهم.. ويبقى اللافت، بل والأكثر طرافة، هم أصحاب الموقف الثالث، الذين قرروا ببساطة تجاهل كل ما يجري. يمضون في إنتاج كتبهم ونصوصهم وكأن شيئاً لم يحدث، وكأنهم أرباب مهنة كسدت بسبب انصراف الناس إلى مشاغل أخرى مستجدة، فقرروا متابعة شغلهم وتكديس (بضائعهم) على أمل عودة الناس عما هم فيه ليشتروا منهم. والأدهى أن بعض هؤلاء يفاخرون بأنهم لا يعرفون شيئاً عن العالم خارج بيوتهم، معتقدين أنهم بذلك يغروننا بقراءة أدبهم النظيف المترفع عن أوساخ الدنيا. في حوار صحفي صرح قاص معروف بأنه يكاد لا يخرج من بيته تقريباً ذلك أن الحياة في الخارج باتت ملوثة إلى درجة لا تطاق، كما فاخر بأنه لا يقرب الكمبيوتر ولم يتورط في سخافة الإنترنت بعد، وأنه لم يشاهد التلفاز سوى في مناسبة واحدة عندما كان ينقل أحداث 11 أيلول، وبالطبع أبدى في سياق الحوار ترفعاً عن الشأن السياسي، مؤكداً أنه يفخر بعدم مواكبته للأحداث المخزية التي تصيب المرء بالغثيان، ثم استنكر العالم برمته كونه صار مادياً بالمطلق تسيره نظريات الاقتصاد المبتذلة بدلاً من النظريات الأخلاقية. ولكن ما الذي ننتظره من كاتب يزدري السياسة وشؤونها، ويترفع عن قضايا الاقتصاد، ولا يعبأ بمستجدات العلم والتكنولوجيا، وربما لم يسافر يوماً في قطار، ولم يقف مرة أمام واجهة متجر، ولم يعتد التسكع في الشوارع أو الوقوف على ناصية لمراقبة المارة.. ولم تؤرقه أياً من أزمات الحياة..؟ هذا مفهوم قديم للأدب حيث الكاتب الزاهد المعتكف في صومعته منتظراً الوحي الذي يمده بالأفكار المجردة والخيالات المجنحة.. يقرأ الكلمات ويعيد صياغتها في كلمات أخرى. وثمة علاقة طردية هنا، فكلما تعمقت عزلة الكاتب وازداد إحساسه بالعجز عن المواكبة والتفاعل، يزداد تعاليه وتعلقه بوهم الطليعية وإصراره على النظر إلى العالم من فوق، من الأعلى. كثر هم الكتاب الذين يندبون، اليوم، هذا الزمن العربي الأغبر، حيث تخلى المثقف عن دوره الطليعي، أو بالأحرى: تخلت الجماهير عنه واستبدلت به آخرين لقيادتها. في حواراتهم الصحفية ولقاءاتهم التلفزيونية وجلساتهم الخاصة، يعلن أدباء ومثقفون هزيمتهم التامة، ذلك أن الجماهير قد خذلتهم ولم تعد تمشي على خطاهم ولا تتزود من أفكارهم، ما جعلهم يفقدون دورهم الطليعي وموقعهم الأمامي. بل إن شاعرة أسرّت، مؤخراً، لمحاورها التلفزيوني بأن يأسها من هذه الحال المقلوبة قد يدفعها إلى التفكير جدياً بالهجرة إلى كندا (ربما كنوع من العقاب لهذه الجماهير الجاحدة!). والواقع أن الإلحاح على هجاء هذا الزمن يوحي بوجود زمن سابق كان فيه الأمر خلافاً لما هو عليه الآن.. زمن ذهبي كان فيه المفكر قائداً للرأي العام، والشاعر ملهماً للجماهير الغفيرة، والروائي صانعاً للثورات. ولكن متى وأين حدث هذا؟ في العصر المملوكي؟ في العصر العثماني؟ في الخمسينات..الستينات..السبعينات..؟ متى بالضبط كان هذا العصر الذهبي؟. يبدو الأمر وكأن هؤلاء المثقفين الموهومين بالطليعية قد حفظوا فقرة من كتاب التاريخ تفيد بأن المثقفين الفرنسيين هم الذين صنعوا الثورة الفرنسية، أو على الأقل هم من مهد الطريق لها، وقد ساءهم أن تجري الأمور عندنا على غير هذا النحو المتوهم، فاستحقت الجماهير العاصية عقوبة قاسية: التجاهل. وبالعودة إلى (بطن الحوت أو خارجه)، فإن كثيراً من كتاب العالم الذين قرروا اللجوء إلى هذا (المخبأ الأحشائي) قد اختاروا حيتاناً شفافة، تقيهم الصدمات المباشرة والتشوش بالأحداث اليومية، دون أن تمنعهم من مراقبة عالمهم، ومحاولة فهمه واستشراف آفاقه. ولنتذكر أن ميللر، مثلاً، لم تعقه لا مبالاته الطوعية عن إطلاق نبوءات أثبتت الأيام صدقها. أليس هو أكثر الذين حذروا (في مطلع الثلاثينات) من تغير هائل في صورة أوربا، ومن أن القارة مقبلة على شموليات عديدة؟ ربما يكون وجيهاً ومشروعاً خيار الكاتب أن يختبئ في بطن حوت، ولكن هذا لا يعفيه من المهمة الأساسية للكتابة: مراقبة العالم وفهمه.