×
محافظة المنطقة الشرقية

رياح «المقيمين» تذهب بعراقة «قيصرية الأحساء»

صورة الخبر

المرة الاخيرة التي زرت فيها جنوب تونس عموما ومنطقة بن قردان كانت في شهر أغسطس ٢٠١٣م عبر منفذ باب جدير الحدودي بين ليبيا، وتونس. في ذلك الوقت كان كل شيء ينذر بالخطر في الداخل الليبي، وحتى المسافة التي تقل عن مائتي كيلو متر من قلب العاصمة طرابلس الى المنفذ الحدودي التونسي استغرقت زمنا أطول من المعتاد كما اخبرني مرافقي الذي سبق له قطع المسافة من قبل. الطريق لم يكن في حالة مثالية، وانتشرت عليه وبشكل لافت نقاط التفتيش والسيطرة، وكانت العلامات المميزة فيه ظهور الساحل احيانا ثم احتجابه خلف كثبان الرمال، بالاضافة الى انتشار مصافي الوقود مختلفة الأشكال والتي تشترك قي إطلاق الدخان الأسود الكثيف. المناطق السكنية التي تواجه من يستخدم ذلك الطريق متشابهة الى حد كبير ولا يميز أيا منها شيء بارز. سوى بؤس بعضها الظاهر، وتوقف البناء في البعض الاخر حيث بقيت مهملة نصف مبنية ومهجورة. في تلك الفترة راج بين أوساط البعثات الدبلوماسية الأجنبية في العاصمة الليبية أن اغلب البعثات الدبلوماسية بدأت تراجع استعداداتها واحتياطاتها الأمنية، وكان البعض الاخر منها يستعد لترحيل العدد غير الضروري من طاقم الخدمة في البعثة. وكانت تونس ثم مالطا الوجهتين الأكثر تفضيلا لنقل مكاتب بعض الممثليات اليها خاصة الأوروبية. في نقطة التفتيش وتدقيق الجوازات في باب جدير عند مغادرة الاراضي الليبية كان عدد المركبات التي تحمل الأرقام والعلامات الدبلوماسية يشكل نسبة ملحوظة. وكانت واحدة من الاشارات القوية على ان الاوضاع في ليبيا تزداد خطورة، وأن موسم هجرة البعثات الأجنبية من طرابلس قد بدأ. في الجانب الاخر من الحدود على الشطر التونسي كانت مدينة بن جردان اول المناطق المأهولة التي تقابل الداخلين، منطقة متوسطة في مساحتها وسكانها وتعتمد في اقتصادها على الحركة بين الجانبين التونسي والليبي. ولا يحتاج الزائر الى كثير من العناء ليدرك ان جزءا من حياة الناس ومصدر عيشهم يأتي من اعمال تقوم على صرف العملات وتجارة المحروقات والمواد الغذائية، وبعض المواد الاخرى التي تشكل اسعارها فارقا كبيرا بين البلدين. الملاحظة الأهم، تمركز الجيش ببعض معداته على مفارق الطرق وبشكل متناوب مع الشرطة ورجال الامن، وهو امر كان مألوفا في تونس اي انتشار للجيش ومعداته في المدن والضواحي في اعقاب ثورة ١٤ يناير ٢٠١١م ولكن تلك المشاهد خفت فيما بعد مما يعني استتباب الامن العام، ولكن ربما ان الاحوال على الحدود لم تعرف شيئا من ذلك الاستقرار. المفيد وبعد وقت وجهد استقرت الرحلة في جزيرة جربة السياحية وكانت الجزيرة الحالمة على غير عادتها متوترة، ومتحفزة لمواجهة اخطار محتملة من الداخل ومن الخارج. في قلب الجزيرة وفي حومة السوق الشهيرة كمنطقة جذب أولى للسياح تسنى لنا الاختلاط بالناس في مقاهي المدينة ومطاعمها من التجار والفنانين والحرفيين والتشكيليين والمثقفين. جاء الحديث بما تسمح به الظروف العامة وتحدث إلينا الغالبية ممن التقيناهم بصراحة غير مسبوقة وبدون اي تردد، وتقريبا اجمع الأكثرية على أمرين الخوف من ما سموه ثورة مضادة او اختطاف ثورة الشعب التونسي، والامر الاخر التحذير من الارهاب والعنف والمحتمل ان يطل برأسه على الناس في تونس من اي مكان وخاصة من ليبيا. لمست بوضوح وألم حينها في احاديث البعض وخاصة الشباب عدم الخوف من البطالة المرتفعة في الجنوب التونسي عموما وفي المناطق الحدودية بشكل خاص، بقدر خوفهم من افراغ ثورتهم من مضامينها، وتسلل الارهاب المتدثر بعباءة الدين الى عقولهم وبيوتهم ومدنهم وبلادهم. استحضر كل تلك الصور والذكريات على اثر الهجوم غير المسبوق في السابع من الشهر الجاري الذي قامت به خلايا مسلحة تذهب اغلب التقديرات إلى أنها تابعة لما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية في شمال افريقيا الذي يتخذ من ليبيا مقرا له كما تذكر كثير من المصادر، ويغذيه عدد كبير من الاجانب بينهم عدد غير قليل من التونسيين!! في الداخل التونسي توجهت الحكومة والشعب والجيش إلى الوقوف في وجه هذه الموجة، ولم أستغرب الدعوة إلى التبرع لمكافحة الارهاب، لدرء الخطر عن البلاد، والعباد. ابن قرادان القابعة على حدود الماء والصحراء وفي منطقة تمثل مثلثا على حدود ليبيا والجزائر وتونس، وبحسب مخططات المهاجمين نُظر إليها لتكون نواة لإمارة اسلامية في شمال افريقيا، وربما هذا استنساخ لشيء من حالة داعش المشرقية (سوريا- العراق). اصداء تلك العملية حركت بقدر كاف الناس في المنطقة وفي تونس ويبقى أن قلة ما باليد وقلة التجربة وسيطرة الفوضى والانفلات الامني في عموم المنطقة أمور تقلل من أي تحرك فعال، بعبارة أخرى يجب أن يتحرك كل الجيران في الضفة الشمالية للمتوسط. وبوضوح اكثر على الاتحاد الاوروبي ودوله التحرك بجدية ومسئولية لضمان أمن تونس والمنطقة، وللمحافظة على الديمقراطية الوليدة فيها. الغريب ان الاوروبيين يعرفون ان احتياجات تونس ليست من النوع الصعب وان مشاكلها ليست من ذلك الطراز المستعصي، ويكفي ان تتوجه اليها بعض الاستثمارات الأوروبية لتغير من طبيعة الوضع الاقتصادي المتعب، وتساهم في امتصاص ازمة البطالة الحادة هناك. علاوة على تفهم احتياجاتها الامنية، لتعود اليها السياحة والحياة النابضة من جديد. الأمل أن يكون هناك تحرك خارجي يدعم تحرك التونسيين في الداخل للتعافي من افة العنف والارهاب، وكل الخوف أن تتأخر تلك الجهود، وتتعاظم اخطار الارهاب لتطال الجميع على ضفتي المتوسط.