تزخر العاصمة المصرية القاهرة بالكثير من المنشآت الأثرية التي ترجع لحقبة الدولة المملوكية، ويبقى «مسجد السلطان الناصر قلاوون» واحدا من بين المنشآت المملوكية ذات الطابع المعماري المميز التي تعكس مدى التطور العمراني والعلمي الذي شهدته مصر خلال عصر دولة المماليك. ورغم إطلاق اسم الملك الناصر محمد بن قلاوون على هذا المسجد، إلا أن الملك العادل كتبغا المنصوري هو صاحب فكرة إنشائه. ويقع مسجد السلطان الناصر قلاوون بين مسجد الملك المنصور بن قلاوون ومسجد الظاهر برقوق في منطقة القلعة، وقد بدأ فكرة إنشائه الملك العادل كتبغا ثم استكمل بناءه الملك الناصر قلاوون حتى انتهى منه في عام 703هـ. يعد الملك الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون تاسع سلاطين المماليك البحرية، نشأ الناصر محمد في قلعة الجبل، مقر السلاطين بالقاهرة، محاطا بالأمراء والنبلاء وأرباب الدولة، تلك البيئة التي كان لها أثر على شخصيته وطباعه بعدما كبر، حيث توسع في الإنفاق على البنايات الفخمة. أما جامع السلطان قلاوون، فكما ذكرنا بدأ بناؤه على يد السلطان العادل زين الدين كتبغا المنصوري، أحد مماليك المنصور قلاوون، الذي تولى مقاليد الحكم في مصر بعد خلع الناصر محمد بن قلاوون من الحكم، وشرع في البناء حتى وصل إلى مستوى الكتابات الظاهرة على واجهته، ثم حدث أن خلع الملك العادل قبل أن يتمه، وتمت تولية الناصر محمد بن قلاوون مرة أخرى عام 698هـ الموافق 1299م، فلما عاد الناصر محمد إلى ملكه أمر بإتمامه. وتم الانتهاء من المسجد عام 703هـ-1304م، وأطلق عليه اسمه ليصبح مسجد الناصر محمد بن قلاوون، وألحق به مدرسة لتعليم القرآن والحديث، وأطلق عليها المدرسة الناصرية، والتي كانت إحدى منارات العلم في ذلك الوقت، حيث ألحق بها أيضا مكتبة ضخمة، وكانت تدرس فيها جميع العلوم الدينية. وصفه المقريزي بأنه من أجلّ المباني بالقاهرة، حيث يتميز عن بقية منشآت عصره بمدخله المصمم بشكل جمالي على الطراز القوطي، وهو ما كان تصميما غريبا على مصر في ذلك الزمان، أما واجهته المبنية بالحجر والتي لا تزال تحتفظ بالكثير من معالمها القديمة، وتتخللها صفوف قليلة العمق، ففتح بأسفلها ثلاثة شبابيك بأعتاب تعلوها عقود مزينة بزخارف محفورة في الحجر، ويمتد بطول الوجهة طراز كتب عليه اسم الناصر محمد، الذي حل محل اسم كتبغا وتاريخ بدء العمل. يشبه بناء المسجد وعمارته ما كان معتادا في مساجد مصر في ذلك الوقت، إذ يضم المسجد صحنا مكشوفا يحيط به أربع إيوانات لم يتبق منها سوى إيوانين هما إيوان القبلة والإيوان المقابل له، واختفى الإيوانان الآخران وأقيم مكانهما منازل وبيوت، ولم يتبق من معالم المسجد الكثير، حيث ظل محراب المسجد محتفظا بقوامه المعماري المميز الذي يتكون من عمودين صغيرين يتوسطهما المحراب، الذي تشكل الزخارف المميزة هيكله من أعلى المحراب إلى نهاية سقف المسجد، أما شبابيك المسجد فهي محاطة من الداخل بزخارف حفر بداخلها عدد من الآيات والكلمات. بأعلى المدخل منارة مكونة من ثلاث طبقات، الأولى مربعة زينت وجهاتها بزخارف وكتابات جصية جميلة، وانتهت بمقرنصات تكونت منها الطبقة الأولى، والطبقة الثانية مثمنة انتهت بمقرنصات أخرى كونت الدورة الثانية، أما الطبقة الثالثة وهي العلوية فهي حديثة. جامع السلطان قلاوون، هو تاريخيا من الجوامع المعمارية المميزة والمصممة بمهارة ودقة، ولكنه -تاريخيا أيضا- ستظل حكايته نموذج لصراعات المماليك السياسية في هذا الزمان.;