×
محافظة المنطقة الشرقية

قناة "العربية" تطلق شقيقتها "الحدث" رسمياً

صورة الخبر

الحزن والأدب، هل هما شقيقان، جاران، أم أن الأمر مندرج فقط في خانة وهم الأحكام التعميمية السريعة؟ ليس شرط الأدب والإبداع عموماً الحزن، لأن كل كتابة هي أولاً وأخيراً قول في الزمن غايته الانتصار على الموت وعلى الغياب. لأن غاية كل إبداع كبرى أن يطلق رسالة أمام الأبد: (إنني كنت هنا). والباقي تفاصيل لا غير. هذا لا يلغي، أنه من خلال الأدب والإبداع، يتبدى التشابك الهائل للكائن البشري (الإنسان) ككائن حي عاقل. لأنه كائن مركب، يبلغ درجة من التعقيد لا أحد بمقدوره حتى الآن ادعاء التمكن من معرفة كنه النفس البشرية بدقة علمية كاملة. والسبب ببساطة، أن الإنسان كائن حي متحول، يراكم بلا توقف (ما دامت في الدنيا حياة) التجارب. بهذا المعنى فالحزن قد لا يعدو أن يكون مجرد قدح من بين أسباب أخرى متعددة لاستثارة إبداعية المبدع، وأنه ليس شرطاً إلزامياً لتحقق إبداعية الواقعة الأدبية. لكن المؤكد هو أن الحزن قرين بالإنسان، فقط لأنه إنسان (فالحيوانات لا تدرك أنها تحزن، ولا تعرف أنها تحزن). ولقد بكى الإنسان الأول غربته في العالم مع بدايات الخليقة، وبقي يدون ألم غربته تلك في كافة أشكال إبداعه (الأدبية والعلمية والفنية). لقد دونها في قصائد الشعر، في ملاحم النثر، في رسوماته، في منحوتاته، وعلى حيطان مدنه وأماكن سكنه.لا أكثر من ذلك، لو صدقنا قول الشاعر العربي قيس بن الملوح، المعروف بمجنون ليلى، الذي هو من قبائل بني عذرة، الذين قيل في حقهم: (إن عشقوا ماتوا) (وهو ذات البيت الشعري الذي سنجده مغنى، في موشح أندلسي مغربي، يتردد في طرب الموسيقى الأندلسية المغربية اليوم)، فإنه: (ليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها نفس تذوب فتقطر) بل قد يتفاجأ الكثيرون منا حين يكتشفون، أن القرن 18 مثلاً، أروبياً، كان قرن حزن وبكاء ذكوري بامتياز. وأن ألق الكونفوشيوسية في مدارس الديانة البوذية القديمة كان يتأسس على نهر الدموع والحزن التي تنزل من الروح عبر العين بالنسبة لأتباع هذا المذهب أو هذه الديانة الهندو-صينية. ألم يقل المسرحي الفرنسي فولتير: (الدمع هو اللغة الصامتة للألم)، مضيفاً سؤالاً عميقاً، بسيطاً ونافذاً، يعنينا جميعاً وربما يعني كل إنسان في امتداد كينونيته أمام خواء العالم ولا نهائيته: (لكن، كيف ذلك؟. فما العلاقة بين لحظة حزينة وهذا السائل المالح الذي يخرج صافياً من زاوية العين؟). وكان لابد من انتظار النصف الثاني من القرن 19، كي يبلور تطور المجتمعات الأوربية تحديداً جديداً لخريطة دولة العواطف والأحاسيس، ويصبح الحزن والدمع قريناً بالنساء أكثر من الرجال. (علينا ألا نخجل قط من حزننا ودمعنا)، هكذا يقول شارل ديكنز في كتابه (اعترافات). فيما يعلمنا ويليام شكسبير في عمله الباذخ (جول سيزار): (إذا كانت لديكم دموع، فاتركوها تنساب). أما الشاعر ألفريد موسى، فإنه كتب في (أشعار.. أحزان) يقول: (الشيء الطيب الوحيد الذي حزته في دنياي، هو قليل من الدمع الذي بكيته). وهو نفسه الذي قال: (إن دموع الماضي، تخصب المستقبل. وسواء كانت مرة أو حلوة، فإنها دوما شفاء). إن الغاية هنا عند هؤلاء المبدعين الكبار هي ترسيخ فكرة أنه كلما تحقق شرط الإبداعية والصدق، في تلك اللغة وفي تلك الكتابة، وأفلحتا في توليفة الإغراء، فإنهما تنجحان دائماً في إبراز تلك المكامن فينا, بل نكاد نخلص إلى أن تطورات مهمة وحاسمة عاشتها البشرية في تاريخها، منذ أصبحت القراءة والكتابة حقاً مشاعاً لكل الناس. أي منذ تحقق تطور في تاريخ الإنسان، مع اكتشافه للكتابة والقراءة. تأسيساً على ذلك، فإنه، كلما تتبعنا اتساع دائرة التواصل الإنساني والعاطفي عبر الأدب وإبداعية الواقعة الأدبية كنصوص، كلما انتبهنا لتشكل نوع من (الفلسفة الإنسانية التي تفرض أن يكون التضامن مع ألم الآخرين عبر علامات وعبر إشارات ملموسة ودالة). إنها نوع من سوسيولوجيا الأحاسيس تجعل علاقة الفرد بالآخر، أي بشبيهه، تتأسس على مبدأ التضامن، التضامن الذي تفتح بابه بلين -مهما كانت أسباب المنع الذاتية والموضوعية- دمعة تبرق في العين حنواً وأسى ومؤازرة. ومن أجمل الكتابات التي تفيدنا في تمثل هذا النوع من التضامن عبر إبداعية الأدب، كتابات فلوبير، خاصة في رائعته (مدام بوفاري). وكذا كتابات غوته، خاصة في رائعته (آلام الفتى فرتر) ومسرحيته الشهيرة الخالدة (فاوست). أما ديوان العرب الشعري فهو غزير جداً بهذا النوع من الكتابة الأدبية الممجدة للحزن.