×
محافظة المنطقة الشرقية

عام / هيئة السياحة تكثف خدماتها المعلوماتية عن المواقع والفعاليات والعروض السياحية

صورة الخبر

فازت رواية مصائر لكاتبها الفلسطيني ربعي المدهون بالجائزة الدولية للرواية العربية (البوكر) في نسخة العام 2016، وأثارت هذه الرواية - من جديد - الإشكالية الأبدية حول: لمن يكتب الروائي، فهناك من يقول إنه يكتب لنفسه أولاً، وهناك من يكتب لقارىء مجهول، وآخر لقارئ ذكي، وهناك من يقول إن الكاتب يؤلف لمجتمعه لأنه يمثل صوته وضميره، بينما يرى الأغلبية ضرورة أن يكون النص السردي جماهيريا يخاطب أكبر شريحة من القراء وينال إعجابهم، ثم ينطلق ليحقق انتشارًا واسعًا، وعلى الجانب الآخر، يرى الأكاديميون والنقاد أن النص الناجح هو الذي يتبع الأسس (العلمية) في الكتابة، ويراعي الأهداف التي وضعت لها، لكي يوصف بعد ذلك بالأدب الرفيع... فكيف جاءت رواية مصائر بعد هذه المقولات؟ وبالعودة لما ذكره (الناقد) السيد محمود، عضو هيئة التحكيم في جائزة البوكر متحدثًا عن الرواية، أوضح: إن مصائر هي نص أدبي وضع في قالب كونشرتو موسيقي وتم تحويل هذا القالب لهدف سامٍ تمثل في خدمة القضية الفلسطينية، وأضاف أيضا: لقد صمدت الرواية في أي نقاش أدبي اعتمادًا على بنائها الفني، وتجلى تميزها في قدرة الكاتب على استعادة شخصيته من خلال روايته السابقة (سيدة من تل أبيب)، كما نجح الكاتب في التدوال بنجاح مع الأماكن الحقيقية وفي كمية الأنسة الواردة داخل النص السردي. وفي هذه العجالة، نوضح ما جاء على لسان لجنة التحكيم عبر محاورها النقدية: أولاً: قالب الكونشرتو: يعرف الكونشرتو على أنه مؤلفة موسيقية جامعة تعزف بأكثر من آلة واحدة، وتكون عادة بمرافقة الفرقة الموسيقية، وتلعب فيها كل آلة دورًا بارزًا لتنتج المعزوفة الموسيقية المتكاملة، وتتكون غالبًا من ثلاثة أو أربعة أجزاء. فكيف تحولت مصائر إلى كونشرتو موسيقي؟ عمد المدهون في توزيع الفصول الأربعة للرواية إلى أربع حركات موسيقية، فأسمى الفصل الأول بالحركة الأولى والفصل الثاني بالحركة الثانية، وهكذا، ثم وضع لكل حركة بطلين، يتحولان في الفصل اللاحق إلى شخصيتين ثانويتين، وهو بذلك أبعد عن القارىء (الروتين) المتبع في كون البطل عمودًا قائمًا من البداية للنهاية، وأطلق النقاد على ذلك الابتكار بالتجريب الروائي، وكما أن الكونشرتو الموسيقي يحتوي آلات موسيقية مختلفة تكون المقطوعة الموسيقية، فإن شخصيات مصائر المتعاقبة كونت محتوى أحداث الرواية. ففي الحركة الأولى، هناك الفلسطيني وليد دهمان وزوجته جولي في لندن يمثلان نتاج (النكبة) المريرة. وفي الحركة الثانية، تظهر شخصيات جديدة هي جنين وزوجها باسم اللذان ينتقلان للعيش في يافا ويمثلان (حق العودة). وفي الحركة الثالثة، تبرز شخصيتا سلمان وعايدة، ومعاناة الواقع الفلسطيني الحالي. وفي الحركة الرابعة، تشهد تجوالاً حقيقيًا لوليد وجولي في المناطق (الأمكنة) الفلسطينية، فيقعان في حب التراب الفلسطيني والرغبة في العيش على ترابها. ومن خلال الأحداث المتتالية، يعبر الربعي عن إمكانية التعايش السلمي للمسيحي واليهودي والمسلم وحتى اللاديني فوق أرض فلسطين، فهي أرض جامعة لكل الأطياف البشرية. وخلاصة لذلك، يمكن القول إن الرواية أصبحت مطبخًا كبيرًا لأحداث تاريخية ومعاصرة كثيرة، وهدف الكاتب إلى القول إن الماضي بمآسيه يحكم الحاضر، والذي بدوره (يسيس) المستقبل، ويتأثر تبعًا لذلك الحديث عن الهوية الفلسطينية واليهودية. ثانيًا: عنصر التجريب الروائي: إن البناء الفني التقليدي يقوم على عناصر أساسية هي: الشخصيات، الحبكة، الموضوع، المكان، الزمان... ولكن المدهون استطاع أن يضيف لها عنصر التجريب الروائي، وهو ما اعتبره النقاد أساسًا للتميز والنجاح.. فإذا كانت الرواية التقليدية قائمة على البطل الخير وعدوه الشيطاني، فإن المدهون وضع بطلين متحركين لكل فصل، وكان عدوهما واقع واحد مرير، لا يتغير وإن تقادم الزمن. وهو ما يتطلب قارئًا مثقفًا ذكيًا يدرك التاريخ الفلسطيني وكوارثه. وفيما يخص الحبكة الدرامية والعقدة، فقد تعددت العقد بتغير الشخصيات، ولكنها جميعًا اتجهت إلى نهاية واحدة وبثيمة واحدة، أي أن هناك أكثر من حبكة درامية في عمل واحد، قابله ثيمة واحدة مشتركة في سائر عمل الرواية، وهو انعكاس للواقع وللرسالة التي رغب المدهون في إيصالها للقارئ: يجب على اليهودي قبل المسلم والمسيحي، والعربي وغير العربي، ضرورة تقبل التعايش السلمي والمنفعي بعيدا عن الشعارات الرنانة التي يحملها المأزمون والمنظرون. ثالثًا: قدرة الكاتب على استذكار نتاجه الأدبي: لقد اتبع ربعي المدهون منهجًا مختلفًا، فقام في مصائر باسترجاع أعماله السابقة، فوضع نفسه في بعض أحداثها كشخصية عابرة، وتطرق لروايته السابقة (سيدة من تل أبيب) وكأنها جزء مباشر للأحداث الدائرة، وكأنما أراد القول إن الكاتب هو ابن عمله ومن حق شخصياته أن تجسده في عمله الجديد. تحدث الروائي عن نفسه من خلال طرق شتى، فكان راويًا عليمًا أحيانًا، وتقمص شخصيات أخرى أحيانا أخرى، ومهما تعددت صوره، إلا أنه كان وراءها، ويمكن ملاحظة ذلك بيسر. رابعًا: مصداقية الأماكن: تعتبر الأماكن الحقيقية من الأمور التي تزيد ارتباط القارىء بالنص حين يستشعرها ويرتبط بها، وركز المدهون في أماكنه على: عكا، لندن، نهر التايمز، القدس، المجدل عسقلان، غزة، جنين، يافا، حيفا، متحف المحرقة.. كل تلك التفاصيل والمتنوعة أضفت الكثير من المصداقية على مصائر، وكاد القارئ أن لا يميز بين الحقيقة والخيال تبعًا لتلك الجغرافية المضغوطة لكثافة متعمدة. خامسًا: التنوع البشري: يعتبر الإنسان في الفكر هو أعلى وأكبر قيمة، ولذلك يكون العالم التاريخي هو نتاج بشري محض، ويمكننا بلوغ جوهر الأشياء إذا أدركنا ما أنتجناه وفق الطريقة التي صنعناه بها، ومن هذا التنوع تأتي الأنسنة، حيث يمكن معرفة ما نقوم به حاليا وما يمكننا القيام به لاحقًا لمعرفة الحقيقة.. فالأنسنة ممارسة لمعرفة ما نقوم به واقعًا، وما يمكن لنا القيام به لتغيير الواقع، واستطاع المدهون أن يلعب ذلك الدور الحاسم في مصائر، ويصل إلى حقيقة مفادها أن اليهودي والمسلم هما ضحية الإرث الثقافي، ويجب عليهما التعايش السلمي الإيجابي وليس محو الآخر ومسحه؟ تلك كانت النقاط التي أشارت لها لجنة التحكيم واعتمدت عليها، ولكن ماذا عن الجانب الجماهيري وليس النخبوي؟ فماذا يريد القارئ العادي وهل وجد ضالته في مصائر؟ أولاً: اللغة: لقد تحولت مصائر في أغلب سردها من اللغة العربية الفصحى إلى اللهجة المحلية الفلسطينية، ولا أعتقد أن هذا الأسلوب صحيح ويخدم الأدب في مجمله، فالكاتب العربي لا يكتب إلى محيط بيئته، ولكنه يطمح في الوصول إلى أكبر عدد من القراء، واللغة العربية، لغة القرآن، هي الوعاء الأنجع لاحتواء الأدب، وما اللهجات إلا أسلوب مبسط للأحاديث لا الكتابة، ويصعب على مختلف الشعوب استيعاب ما ترمي إليه. ثانيًا: الهوية: بالعودة إلى السنوات الأخيرة من عمر (البوكر)، نجد أن الجائزة تركز على موضوع الهوية عند اختيار الأعمال الفائزة، حتى أصبحت هوية الكاتب (ثيمة) أساسية للفوز بالجائزة، فنجد على سبيل المثال الكويتي سعود السنعوسي متحدثًا عن ثنائية الهوية والبدون في الكويت من خلال ساق البامبو (2013)، وعلى خطوه سار العراقي أحمد السعداوي متحدثًا عن مآسي الحروب العراقية في فرانكنشتاين في بغداد (2014)، وصولا لشكري المبخوت في الطلياني (2015)، الذي تحدث عن الأسباب الأيديولوجية في تكوين الإنسان التونسي منذ حقبة الحبيب بورقيبة وصولاً لما بعد ثورات الربيع العربي، وهكذا وضعت البوكر نفسها في قالب (الهوية) وتغافلت عما سواه. ثالثًا: التشويق: نجد في مصائر تركيز الكاتب على ذكر الأحداث التاريخية وإبرازها (عنوة)، وكذلك تدوين المناطق التاريخية في فلسطين، ولكن جاء ذلك على حساب عنصر التشويق والمباغتة بين الأحداث. وتجدر الإشارة أيضا إلى إقحام بعض المشاهد في النص بطريقة (حشوية)، فجاءت خارجة عن سياق النص في استرسال غير محمود، ومن ذلك مثلا ما ورد من تفصيل دقيق وطويل حول شخصية (كواكو)، في الصفحات 23 إلى 27، وهي شخصية هامشية عابرة لا تستحق كل ذلك التفصيل، وكذلك حكاية جميل حمدان ومغامراته في موسكو خلال مرحلة الدراسة الجامعية! رابعًا: الابتعاد عن التنظير: لا يرغب القارئ الكتابة المتعالية عليه، واملاء الفكر من الكاتب، ولكن المدهون وضع رؤاه الثقافية في قالب تنظيري مثالي بعيدًا عن الواقع، حتي يسشعر القارئ بأن هناك من يشخص المعضلات برمتها في الأراضي المحتلة، ومن يضع الحل بيسر شديد أقرب إلى الخيال، وهي خطوة فانتازية غير حقيقية منفرة للقارئ العادي. وتجدر بنا الإشارة في هذا السياق، إلى ما خلص إليه البرازيلي باولو كويلو بعد استبانة عملها لقرائه حول الكاتب الأمثل، فأشار قراؤه إلى توصيات لم يعمل بها هو، فقالوا: إنه من واجب الكاتب إذا أراد أن يكون عبقريًا، ألا يكون مفهومًا من جيله، فوحدهم الأدباء أقدر على فهم ما يعنيه الكاتب، فالكاتب الأصعب هو الأفضل! وخلاصة لذلك كله، يمكن للمتابع التفريق جليًا في العمل السردي بين معيارين أساسيين، المعيار الفني الأدبي الذي يتبعه النقاد، وبين المعيار الجمالي الذي يريده الجمهور، فالناقد يريد بناءا فنيا تجريبيا، والجمهور يريد لغة تسرد أحداثًا مشوقة، ولا يريد تنظيرًا واستعراضًا معلوماتيًا.. ولذلك يبقى السؤال الأزلي قائمًا: لمن يكتب الروائي، للناقد أم للجمهور؟