صمدت مدينة داريا في ريف دمشق نحو أربع سنوات وهي تقاوم النظام في حصارها وجوعها وعطشها، عصيّة على الاستسلام، تدفن شهداءها وتلمّ سلاحهم، وتكمل طريقهم بمن بقي من رجالها وفتيانها. وما تردّدت نساؤها في تلبية نداء النخوة حيث لم يبق من يواجه جيش النظام، ثم يذرفن الدموع على الجنود، وبعضهم من الأهل والإخوة، وعذرهم أنهم قاتلوا باسم النظام وهم مأمورون. وكان لا بدّ لداريا من استراحة ووقفة حساب. فهذا الجيل من رجالها الذي صار صوراً على جدران الشوارع والساحات العامة خلفه جيل من الثكالى، والأرامل، والعجزة الذين لم تكن الشهادة من نصيبهم، بل كان نصيبهم الموت قهراً وهم يتطلعون من ركام بيوتهم إلى موكب النظام وهو يعبر ساحاتهم في شبه عرض رافعاً علامة النصر. منذ خمس سنوات والعالم يتابع ما يجري، فسورية مشلّعة الأبواب تتحكّم بمصيرها أربع دول: روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل، فيما يشكّل التحالف المؤلف من 64 دولة مظلّة مراقبة لستر الجريمة التاريخية المتمثلة بتشتت الشعب السوري في أطراف العالم بعد تدمير مدنه واستنزاف ثرواته القومية وسقوط مئات آلاف القتلى. ومن عجائب محنة سورية أنها يسّرت حلولاً لأزمات دول غربية هي مثال في التقدم والمدنية والديموقراطية والإزدهار. فألمانيا استقبلت خلال السنوات الأربع الماضية نحو مليون لاجئ من سورية، وهي تعدّهم اجتماعياً وثقافياً وتربوياً ولغوياً ليكونوا في المستقبل غير البعيد جزءاً من الشعب الألماني. ذلك أن ألمانيا التي يبلغ عدد سكانها حالياً قرابة ثمانين مليوناً تتحسّب لتراجع العدد إلى سبعين مليوناً في الأعوام العشرة المقبلة، لأن الألمان يكادون يُضربون عن الإنجاب، في حين تزداد نسبة أعداد المسنين العاجزين عن العمل مع متطلبات ضماناتهم الاجتماعية. هي مأثرة مخيفة بقدر ما هي إنسانية. فكأن الطفل السوري المنكوب بنظامه وحكامه مطلوب لسد فراغ في مجتمعات الغرب المتقدم! لكن هناك منظمة تحمل اسم «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» تُصدر كل شهر بياناً يتضمن إحصاء لعدد الضحايا في معارك سورية، ليس بنيران الجبهات المتصارعة بل بنيران البراميل المتفجرة التي تنزل عليها من الجو محمولة على طائرات النظام؟ وهناك بيان يعود تاريخه إلى آذار (مارس) من العام الماضي محفوظ بعلامة مميزة في سجلات تلك المنظمة لما فيه من أرقام ووقائع وفواجع وتفاصيل، منها هذا البيان: 35 مجزرة قُتل فيها 479 شخصاً بينهم 131 طفلاً، و77 امرأة. وقد توزعت الضحايا في أعناق أهل النظام ومختلف المنظمات والفصائل المحاربة على النحو التالي: ضحايا النظام 340، بينهم 103 أطفال و77 امرأة. ضحايا «داعش» وأخواته: 122، بينهم 24 طفلاً و26 امرأة. ضحايا جبهات المعارضة: 17 شخصاً، بينهم خمسة أطفال. أما العدد التقريبي لضحايا المحنة السورية حتى أواخر آب (أغسطس) الماضي، فقد قارب الـ 700 ألف قتيل. وعدّاد الموت السوري لا يتوقف، ولا تتوقف المشاحنات السياسية بين وكيلي النظام والمعارضة، الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري. ومن سخريات الوكيلين خلافهما أمام مجلس الأمن الدولي على سرية أو عدم سرية اتفاق الهدنة الذي كان يفترض أن يُطبق منذ بداية الأسبوع الثالث من الشهر الجاري، وقد تعثّر الاتفاق بين الوكيلين الروسي والأميركي، وكاد يتحول نكبة فوق نكبة. لكن، بعد خمس سنوات يتبين أن هذه الحرب التي تدور في سورية هي على سورية، الشعب والكيان، وليس على النظام الذي يستشرس بقوة روسيا وبحمايتها، وبدعم لا محدود من النظام الإيراني الذي يحارب بالنخب من فرق جيشه ومعداته مع الحرس الثوري، وكأنه يثأر لخسارته في حرب العراق زمن صدام حسين ونظامه غير الشقيق للنظام السوري. فبعد «خراب البصرة» أي العراق بكامله، جيشاً، وشعباً، وبلاداً، وثروات، ودوراً، وإمكانات، وبعد تهجير المسيحيين من مناطقهم ومدنهم أمام هجمات «داعش»، شعر المجتمع الدولي بالقلق، فكان أن بادرت فرنسا في آب 2014 إلى دعوة مجلس الأمن إلى جلسة طارئة وأعلنت استعدادها للانخراط في جبهة دولية غربية لمواجهة «داعش»، فيما بادر الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى إصدار أمر إلى البنتاغون لتشغيل سرب من الطائرات الحربية من دون طيار للمشاركة في عمليات نوعية، وكان «بن لادن» ذلك الصيد الثمين. لكن، قبل ذلك، وتحديداً في مطلع الألفية الثانية، احتفل الحلف الأطلسي بالذكرى الخمسين لتأسيسه في واشنطن، ووضع خطة «الأفق المشترك»، أو «المصير المشترك» بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ثم، في قمته المنعقدة في العام 2010 في لشبونة عاصمة البرتغال، دخل الحلف الأطلسي في تفاصيل خطة مواجهة ترتكز على قاعدة «الحرب الاستباقية» حيث يلوح خطر يهدّد الأمن الأوروبي - الأميركي. ومن غرائب المصادفات أن تبدأ حروب «الربيع العربي» قبيل بداية خطة الحرب الاستباقية. لكن تلك الخطة تجاهلت تماماً عمليات «داعش» التي انتشرت في العالم العربي، وقد تأخّر الحلف الأطلسي حتى أوائل العام 2014 حتى عقد قمته في مدينة ويلز- بريطانيا. وفي تلك القمة وقف وزير الخارجية الأميركي جون كيري (ما غيره) وأعلن باسم دولته بلهجة حاسمة: لا مجال لإضاعة الوقت. ينبغي تشكيل تحالف دولي واسع «لإضعاف» التهديد الذي يمثله تنظيم «داعش» ثم القضاء عليه في نهاية المطاف. في تلك القمة تقرر تشكيل قوة متعددة الجنسيات لجمع المعلومات عن تدفّق المقاتلين الأجانب. ويومها نُسب الى الوزير كيري قوله: «داعش» تنظيم ضعيف. ثم إنهم غير منظّمين، أما نحن فلدينا التكنولوجيا والخبرة». حدث ذلك قبل سنتين بالتمام. فماذا كانت النتائج حتى الآن؟ الجواب في سورية واليمن، والعراق، وليبيا. لكن السؤال: لماذا تأخر الحلف الأطلسي وتقدم «داعش»؟ وما تفسير ما حدث وما يحدث حالياً، وما سيحدث في القريب العاجل بلغة الانتلجنسيا الأنكلو- ساكسونية؟ سبق للحلف الأطلسي أن تورط في حرب أفغانستان بعد أن تورط قبله الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وكانت النتيجة نهاية العصر الملكي الأفغاني، ثم نهاية النظام الشيوعي السوفياتي، ونشوء «القاعدة»، وصولاً الى كارثة نيويورك وتدمير البرجين الشهيرين، وبعدهما نهاية «بن لادن» بأمر من أوباما، فبكبسة زر في البنتاغون، سقطت قذيفة من طائرة بلا طيار على كوخ في باكستان فقتل الرجل المطلوب في عملية صامتة. لماذا تأخر الحلف الأطلسي وتقدّم «داعش» الذي خطف حلم الفتوّة السورية في ثورتها العفوية التي طلعت مثل نبتة بريّة في ربيع العام 2011؟ ولماذا ترك الأطلسي الفرصة لـ «داعش» كي يتسلل الى سورية ويعطي النظام ذريعة وسنداً وغطاء للمضي في قتل الشعب وتدمير مدنه ومؤسساته ورموز حضارته وتراثه، فيما «داعش» يتولى «تأديب» الصامدين الصابرين بالسيف قطعاً للرؤوس، وبالخنجر نحراً في الأعناق والصدور. جرى ذلك ويجري منذ خمس سنوات فيما الحلف الأطلسي ممثلاً بجون كيري يجادل زميله الروسي سيرغي لافروف في أصول وقواعد تأمين الغذاء والدواء، شحنة بعد شحنة، لعشرات آلاف العائلات السورية المحاصرة منذ نحو سنتين غرب خط الكاستيلو في ما بقي من مدينة حلب. ومن سخريات القدر على سورية وشعبها أن تتحول المحنة نقطة نزاع بين بهلوانين: الروسي سيرغي لافروف، والأميركي جون كيري... فيما ممثلو دول العالم يتبارون بالخطابة على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك. * كاتب وصحافي لبناني