د. محمد الصياد لماذا تصر جماعة إثنية أو عرقية أو مذهبية أو جهوية على ترسيخ وإظهار تميزها عن بقية أقرانها من الجماعات الإثنية والعرقية والمذهبية والجهوية الأخرى؟ هذا سؤال يطرح نفسه من واقع الانقسامات الفئوية للكتل الاجتماعية التي تنتظم النسيج السكاني في العالم العربي، والتي ظهرت على السطح بعد انكفاء مشروع الدولة القومية إثر الضربات الموجعة التي تلقاها تباعاً على أيدي عديد مراكز القوى الدولية والإقليمية والمحلية الممانعة لتغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية وليدة حالة التشطير والتخندقات القُطرية التي أنشأتها قوى وعلاقات التبعية للأسواق المركزية العالمية، الغربية تخصيصاً. لعل من الجدير بالتوضيح، كمدخل قبل الولوج في موضوع السؤال، إزالة اللبس الذي قد يعلق بسياقات حديثنا حول موضوع التخندق العصابي لمختلف الجماعات المتكتلة حول ذواتها ونرجسياتها. فيتعين مثلاً التفريق بين الإثني والعرقي، من حيث إن الإثنية تستخدم للدلالة على حالة الجماعة الإنسانية التي قد لا يربطها بالضرورة رباط عرْقي بقدر ما تربطها هوية مشتركة مؤسسة على قاسم تاريخي وحضاري مشترك مثل اللغة والأدب والدين أو شعائر الدين كتعبير عن الهوية. بالنسبة لشعوب أوروبا ما بعد تراجع مواقع ومكانة الكنيسة التي ارتبطت بالحكم المطلق لإقطاعياتها، إثر تدهور حال الإقطاع كنظام اقتصادي اجتماعي وإفساحه المجال لبرجوازيات المدن الناشئة ورأسمالياتها الوليدة، اعتباراً من مطالع القرن التاسع عشر، فإن الانصهار في بوتقة الذات القومية، كان عنوان الهوية الجديدة للإثنية الأوروبية الصاعدة. وكان يمكن لهذا السياق التاريخي الأوروبي أن يتكرر ويحقق نفس النجاح في عالمنا العربي لو قدّر لمشروع القومية العربية الذي أطلق آفاقه الطموحة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، تجاوز العقبات العديدة التي وضعت في طريقه. وإذا كانت وحدة التاريخ والثقافة تشكل أساس الإثنية، فإن وحدة الدم والجنس هي أساس قيام الهوية العرقية. ومعظم الحركات القومية مثل القومية الإنجليزية أو الفرنسية أو الجامعة السلافية والألمانية والقومية الطورانية (أو البانطورانية، وهي حركة سياسية قومية ظهرت بين الأتراك العثمانيين أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، هدفت إلى توحيد أبناء العرق التركي الذين ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة واحدة)، وكذلك النازية والصهيونية - تستند إلى تعريف عرْقي إثني للذات القومية. ولكن، بعد كارثة الإبادة النازية، لم يعد المزاج الأوروبي في وارد تقبل التعاريف العرْقية، فبدأ القبول بفكرة وتفسيرات الوحدة الإثنية وتمت تنقيتها من مفاخرها العرقية لتفادي ما علق بها من شبهات عنصرية أظهرتها القومية الألمانية في نسختها النازية. وفي نهاية المطاف، فإن الوحدة على أساس عرْقي تقارب الوحدة على أساس إثني، إذ تدَّعي كلتاهما نقاء أصحاب هويتيهما. وهناك مشتركات بين الاثنتين فيما يتصل خصوصاً بتعريف الذات أو الهوية القومية. قد لا نبعد كثيراً عن صحة التفسير الذي نبحث عنه توصلاً لإجابة السؤال عاليه حول تخندق الجماعات العرقية والإثنية والمذهبية والجهوية حول هوياتها الفرعية وإظهار تميزها، بل وتفوقها على بقية قريناتها من الجماعات الإثنية والعرقية والمذهبية والجهوية الأخرى، حين نقول إن باعث تلك الجماعات، هو الحيلولة دون الذوبان في خضم مجرى التحولات الاقتصادية، وبمعيتها الاجتماعية بالضرورة، في مقبل الأيام من الحقب التاريخية المتواترة والحافلة بانعطافاتها الجارفة التي يفرضها قانون تطور قوى الإنتاج، المادية والبشرية والعلمية والتكنولوجية، أي التطور الاقتصادي والاجتماعي العام. هذا التخندق الذي لا يمكن إلا أن يكون دوغمائياً وامتداداً لبعض أنواع الهرطقات الدوغمائية المروّجة لفكرة الاصطفاء النخبوي عبر التاريخ، كان موجوداً دائماً في مختلف البقاع العربية، ولكنه لم يكن مرئياً ولم يكن مثيراً للانتباه. بل كان الاضمحلال الطبيعي بانتظاره، في ظل صعود فكرة وحدانية الأرض والمصير ومشروع الدولة القومية العربية العابر للهويات الفرعية، القبلية والعرقية والإثنية والمذهبية، المتولدين من مخاضات الرفض الجمعي للاستعمار والاضطهاد العثماني، ومن بعده الاستعمار الأوروبي.. وكان الانصهار في بوتقة هذا المشروع مآله، لولا أن أطاحته القوى المضادة للمشروع ولفكرته الوحدوية المؤسسة على نفس أسس الدولة القومية التي أشادتها أوروبا على أنقاض إقطاعيات ولاياتها المتناثرة والمتنافرة.. ولولا أن داهمت الثورة الإيرانية ذات اللون المذهبي، وبموازاتها الظاهرة الجهادية الأفغانية، الإقليم العربي المرتبكة أصلاً خياراته وسط فوضى التنظير لسياسات ما سُمي بالانفتاح الاقتصادي، وترويج وتسويق خيارات تسييس الدين بمختلف نكهاتها - لولا تلك الارتدادات وتلك المداهمات المفاجئة، لكان مسار تطور الدولة القومية التنموية مغايراً تماماً لما هو حاصل اليوم، ولكان مستوى ومضمون اللبررة في الحياة العربية أكثر ملاءمة لمقاربة خيارات تنموية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، أكثر تقدماً ورقياً من الحصاد الرث لهذه الارتدادات والمداهمات. وهو حصاد يؤكد الحاجة الملحة لإعادة الاعتبار لمشروع الدولة القومية التنموية المستقلة، باعتباره الخيار الأنجع للرد على اتجاهات التشطير والتفتيت المنظمة، ولمقابلة تحديات العصر المصيرية الكبرى. alsayyadm@yahoo.com