ما الذي حدث بعد تنظيم عمل الهيئة؟ الذي حدث هو اكتشافنا أننا كنا نتوهم أننا مجتمع غير طبيعي، وأن هنالك كارثة مجهولة تحيط بنا، لكن تم تنظيم عمل الهيئة ولم يحدث ما كنا نخشاه الإنسان لا يستطيع أن يرسم لوحة على الهواء، أو أن يصنع من الماء طوب بناء، لا يستطيع أن يقبض على الظل، أو أن ينحت في الفراغ. والحديث بهذه الكيفية يُعد ضرباً من الجنون، الغريب في هذا الإنسان غير القادر على فعل أي مما سبق، أنه قادر وبكل جدارة على أن يبني نظاما اجتماعيا يستند على الخيال بالكامل! فيظن ويخمن أولاً ثم يبني على ظنونه بضع فرضيات ويجادل حولها، وبالجدال تتحول الفرضيات شيئا فشيئا إلى قناعات راسخة وعقائد ثابتة لا تقبل التشكيك بأي حال. وعلى هذه العقائد والقناعات يباشر المجتمع بترتيب وتنظيم أموره الحياتية المختلفة، ولا تصبح عملية التشكيك محرمة لقدسية القناعات إنما حفاظ على النظام الاجتماعي الذي تم بناؤه على الظن والتخمين. على سبيل التوضيح، لنتأمل في منظومة الفرضيات التي كنا بالأمس القريب نحيط بها جهاز "هيئة الأمر بالمعروف"، كيف كنا نرددها بشكل شبه يومي حتى ترسخت في الأذهان كمعتقدات لا يجوز حتى التشكيك فيها. مثلاً، أنه لولا جهاز هيئة الأمر بالمعروف لغرقنا في مستنقع تتآكل فيه القيم والأخلاقيات، ولولاها لانتهك الناس حدود الله علانية، ولما أمِن الزوج على زوجته ولا الأخ على أخته، ولكانت مهمة الحفاظ على الأعراض جدا شاقة، هذا بغض النظر عن الفرضيات الخاصة بالسحرة المشعوذين، إلخ.. من الفرضيات الهشة التي سيطرت على ثقافة المجتمع بآلية "كثرة الترديد" التي أثبتت جدواها بدلالة إيمان الكثيرين بكل ما كان يقال. وفي اللحظة التي تحولت فيها كل تلك الفرضيات والتخيلات إلى حقائق ومعتقدات راسخة كان من الطبيعي أن تتأثر جميع مناحي الحياة داخل المجتمع، أن يتأثر نمط التربية، وطرق التعليم، وتنظيم سوق العمل، كذلك الفن والترفيه، وحتى كيفية التواجد في الأماكن العامة، وتتأثر المجالات الثقافية والفكرية، حيث لا يتم عرض ونشر إلا ما يؤكد على صحة ما نفترض ونتخيل! إن كل تلك الفرضيات والأوهام التي أحطناها بجهاز "هيئة الأمر بالمعروف" لم تكن تتطلب علما ولا تحتاج إلى تثبت ودراية إنما فقط إلى قدرة على التخيل ثم تصدير ما يجود به الخيال إلى ثقافة المجتمع، وحشر عقول الأفراد بكل الترهات عبر آلية الترديد المستمر والاستمرار في الترديد بمناسبة وبدون مناسبة. لقد آمن الكثيرون بكل ما كان يقال، وهذا الإيمان هو كل المطلوب حتى تتم إعادة تشكيل ملامح المجتمع بكل ما فيه من أنماط وأنظمة، حتى جاء القرار بتنظيم عمل ودور الهيئة والتزم العاملون والمحتسبون عمليا ببنود القرار وابتعدوا عن خطوط التماس، حينها حدث ما خالف كل التوقعات، فلم تخلع المرأة حجابها، ولم يقف الشباب في طوابير للتحرش، والسحرة لم يستخرجوا لهم تصاريح مزاولة مهنة، والمحلات لا تزال تغلق أبوابها فور سماع الأذان.. هذا كل ما حدث، أي أنه لم يحدث أمر مما كنا نؤمن بحتمية حدوثه! وربما الشيء الوحيد الذي حدث هو الصدمة التي أصيب بها من كان يتأمل حدوث ما لا تحمد عقباه، كي لا تُفجِعه حقيقة أن أعز قناعاته وأرسخها ليست إلا أوهاما. إن حالنا بعد تنظيم دور الهيئة لم ينحدر إلى الرجس والفجور، وأيضا لم يرتق للنقاء والملائكية، لا تزال في المجتمع مظاهر لبعض الانحلال الأخلاقي حاضرة ومشاهدة، وإن كانت نادرة، كحالات التحرش، والعقوق والخيانات الزوجية، والمخدرات التي يتم تعاطيها والترويج لها، والسحرة والمشعوذين الذين يلجأ لهم ضعاف الإيمان، الكثير من التصرفات اللاأخلاقية موجودة في مجتمعنا وفي كل المجتمعات، موجودة في الماضي والحاضر وستبقى ببقاء تدافع الخير والشر في المجتمعات الإنسانية. صحيح أنها إشكالية وينبغي التصدي لها باستمرار، لكن الإشكالية الأكبر أن يتم استثمار بعض هذه السلوكيات الشائنة بغرض الإبقاء على المجتمع في حالة من القلق الدائم. فما الذي حدث بعد تنظيم عمل الهيئة؟ الذي حدث هو اكتشافنا أننا كنا نتوهم أننا مجتمع غير طبيعي، نتوهم أن هنالك كارثة مجهولة المعالم تحيط بنا، نتوهم أننا في مجتمع إن لم نخف فيه من شيء ما فعلينا الشعور بالقلق! فتم تنظيم عمل الهيئة ولم يحدث ما كنا نخشاه، لم تتحول جدة إلى "لاس فيغاس"، و"بانكوك" لم تحل محل الرياض، وجيزان لم تصبح "باريس"، والمساجد لم تشتك من هجر المصلين، والشاب لا يزال عاقلا رزينا والفتاة لا تزال متمسكة بحيائها، ومرة أخرى، هذا لا يعني أننا اليوم مجتمع ملائكي لكن يعني زوال حالة القلق التي سببها الإيمان بفرضيات هشة، لنكتشف اليوم أننا مجتمع برغم كل مشاكله، إلا أنه مجتمع طبيعي ويحق للفرد فيه أن يرتاح من اعتناق الوهم. إلى هنا والحديث فقط عن التخيلات التي أحطناها بعمل هذا الجهاز، وإلا فالأوهام التي تسهم بشكل كبير في تشكيل طبيعة المجتمع لها أوجه متعددة.