النسخة: الورقية - دولي كان المصريون الفراعنة يأبون تزويج بناتهم خارج مصر مهما كان شأن الطالب. بيد أنهم كانوا يرحبون بالزواج من بنات شعوب أخرى مهما نأت. وكان عرب الجاهلية، من أطراف شبه الجزيرة العربية حتى أقاصي الجزيرة الفراتية السورية الممتدة في الأناضول الشرقي، يسيرون على المنوال نفسه، فكانوا يمانعون في تزويج بناتهم إلى أفراد من أرومة أخرى، حتى لو كانوا ملوكاً، مع أنهم كانوا يسارعون إلى الزواج من بنات غيرهم. وكانوا يعدون هذا أمراً طبيعياً، لأنهم يمارسون الزواج الخارجي عبر القبائل المتمايزة في ما بينها. وما وصلنا من قَصَص عن حالات عشق بين أبناء عمومة رفضتها القبيلة ولم تنته بالزواج، ربما تشير خفايا ثناياها إلى آثار منع تزويج ذوي القربى، وبالتالي امتناعهم عن ذلك بحجة مُفارِقة هي رفض الحب الذي يحفظون أشعاره ويتغنون به علناً. لذلك أسموا ذلك العشق حباً عذرياً، وهذا شأن طبيعي، فالرضا بزواج أبناء العمومة العاشقين ربما كان سيبدو كأنه سماح ضمني، أو رضا بالعودة إلى «سفاح المحارم». ومن المحتمل أن يكون لرفض تغريب البنات ارتباط «أنتربولوجي» بتحول ميل الرجل القديم من الاحتفاظ بالإناث وتغيّر مظاهره، مع التطور الحضاري، إلى الخشية من إذلالهن بعيداً عن أهلهن من دون نصير يحميهن أو يشفع لهن، وهن المعززات عند أهلهن، المكرّمات عند قومهن. فقد وصل الأمر في جاهلية العرب إلى أن لا تتزوج الحرة إلا من ترضاه، إذ تستشار في من يأتون خاطبين، على ما تسرد الروايات المتناقلة. في الوقت نفسه لم تذكر تلك الروايات ضرائر لهاته الحرائر! ودعك من مِلك اليمين، فهذا متوافر في الأسواق وفي البلاد المجاورة، ولسن بالنادرات أولئك اللواتي اشترين لأزواجهن إماء، للإنجاب أو للتمتع، بحسب واقع النظام الاجتماعي الاقتصادي السائد آنذاك، فالخطف وشراء الإناث رافقا الزواج الثنائي منذ ظهوره. وحرائر تلك الأيام هن اللواتي كنّ يُدافع عنهن، وتنشب الحروب من أجلهن ومن أجل كرامتهن (والقصص في المتون وفي السير الشعبية عن هذا ليست بالقليلة). وكان أن أنجبت أمثال تلك النسوة حكماء وزعماء وقادة يتساندون ليحفظوا السلم الأهلي أو ليخوضوا معارك ناجحة دفاعاً عن قومهم. من الممكن اعتماداً على إحدى النظريات القول إن إرثاً تبقّى من العصر الأمومي، الذي حلّ بعد قيام الأبناء الذكور بقتل الأب الذي كان يحتكر لنفسه جميع النساء، ويطردهم بعيداً عن مجاله عندما يشبون. ولما كان الأبناء قد اشتركوا في النسوة، بعد تآمرهم على ارتكاب خطيئة قتل الأب، فقد قامت النساء بتسلم دفة تسيير الأمور ردحاً من الزمن وكن طاغيات. ثم ما لبث أن أدى نجاحهن في استنبات الجذور والبذور خلال غياب الذكور أمداً في مطاردة الصيد، إلى نشوء النظام الزراعي ومن ثم ظهور النظام البطريركي وعودة السيطرة إلى الذكور حـاملي وزر الخطيئة الأصلية (قتل الأب). يشير بعض الأنتربولوجيين إلى تجاور النظامين الأبوي والأمومي أحياناً، في بعض المنـاطق وعند عديد من الشعوب، قبل أن ينتهي الأمر إلى شمول الأول وبقاء آثار من الثاني. إنها مسألة تحتاج إلى بحث دقيق وعميق كيف انتكس وضع المرأة، منذ مئات قليلة من السنين، وكيف أضحت متاعاً في المنظومة الذكورية، يتحكم فيه الأب أو من يقوم مقامه من عم أو أخ أو زوج، من دون أن يكون لها الحق في تكوين رأي أو إبدائه، فمن حق الولي الذكر التسلط عليها، وكذلك تزويجها حتى لو كانت طفلة، ويقبض مهرها ويسلمها لمن دفع. وغالباً ما يستولي أعمامها أو إخوتها على إرثها العيني (خصوصاً الأرض)، وقد يتصدقون عليها ببعض المال. قد يعترض معترض بأن التشريع لا يسمح بهذا، وأن فيه العديد من الضمانات. هذا الرد يصدر عن نزعة أخلاقية محمودة. لكن المعتمد ما يجري بين الناس بناءً على ما هو راسخ في المعتقد الشعبي حالياً، من كون المرأة قاصرة. بل يصل الأمر بالبعض إلى اعتبارها أس الشرور، وهذا من آثار جانب من العقيدة اليهودية عششت في وجداننا، ويزيد في حدة سيطرتها المجتمعية ترديد بعض محدودي المعرفة لها، وتأكيدها.