حينما رن هاتف مكتبي ظهيرة أمس، تطلعت على رقم المتصل، ووجدتني أذهب بعيداً، أعرف هذا الرقم جيداً، في الحقيقة أنا أحفظه عن ظهر غيب، ولكني وجدتني لا أستطيع أن أرفع سماعة الهاتف وأقول "آلو"، فتوقف عن الرنين وبعد دقائق عاود ذات الرقم الاتصال بي، وهنا لم أجد بُداً من الرد، فقد كنت أعرف المتصل جيداً، إنها رئيستي السابقة والتي عملت تحت إشرافها قبل سبعة أعوام، كنت وقتها مجرد "بيضة" لم تفقس بعد، وحينما جئت للعمل عند السيدة "افتخار" وهي بريطانية الجنسية من أصل عربي، حتى "فقست" وكبرت، وأصبح لي هوية واسم وبدأت تتكون لي شيئاً فشيئا شخصية مختلفة، مختلفة تماماً عما أعرفه عن نفسي، فقد كانت السيدة "افتخار" امرأة عظيمة جداً، ولها هيبة وحضور طاغٍ لم أره عند كثير من سيدات اليوم. اتصلت بي تطلب مني خدمة، ولا أعرف لماذا ارتجف صوتي وأنا أتحدث معها، كان الجميع يقولون لها إن "سارة" ما هي إلا ابنتك التي لم تنجبيها، فالسيدة "افتخار" لم تتزوج طوال حياتها، ولكن الأمومة معها كانت صعبة بعض الشيء، فلم أتعود على "مرمطة" الحياة، فما بالك وأنا أجد نفسي "أتمرمط" في عمل جديد، وأنا التي كنت أعتقد أن العمل ما هو إلا مكتب أنيق، ومبرد أظافر، ولبانة، وكوب شاي، وهاتف ذو شاشة عريضة، وأوراق تقرأها وتقول لصاحبها "راجعنا بكرة"، لم أتخيل أن أكون موظفة بالمفهوم الأوروبي للوظيفة لا بالمفهوم العربي، لذا فيبدو الأمر جداً طبيعيا، حينما يمر أي موظف ويجدها "تشخط" بي، وبعد دقائق تطلبني لمكتبها، فتقول لي نكتة جديدة أو تضحك معي على موقف حدث معها أثناء اجتماعاتها الكثيرة. اعتدت على طريقتها وأسلوبها الفظ القاسي، وتحملت كثيرا.. الكثير، كنت أصغر موظفيها، وكانت دائماً تطلب مني المجيء إلى مكتبها وترتيب أوراقها وملفاتها، ولم يكن هذا من مهام عملي، لكني الآن بالتأكيد أدين بالفضل لكل الأشياء التي غيرتها في شخصيتي. وبحكم قربي من السيدة "افتخار" عشت معها آلامها وأفراحها، أتذكر حينما جئت يوماً إلى العمل ووجدت مكتبها مغلقاً، يا إلهي، لا يمكن لي وصف السعادة التي طمرتني، "افتخار" ليست موجودة، إذاً سأتنفس من أنفي هذه المرة، وحينما علمت لاحقاً أنها سافرت إلى حيفا بسبب وفاة أمها "داليدا"، حتى حزنت كثيراً وتمنيت جداً أن أكون بقربها، كما وأني أتذكر تلك اللحظة التي صرخت فيها ظهراً باسمي، وجئت كالعادة أركض لمكتبها، كنت مجرد كتكوت صغير للتو خرج من بيضة الأم والأب والعشيرة، ولم أكن أعرف كيف يمشي الآخرون، فقد كنت أركض دوماً، وحينما وصلت مكتبها، حتى أغلقت الباب وأظهرت لي أوراقاً عديدة وكبيرة، كانت الأوراق هي المخطط الجديد لفيلتها التي اشترتها في قبرص، أخذت تشرح لي عدد غرف النوم، والمطبخ، والصالون، ما زلت أتذكر سعادتها الكبيرة، وما زلت أذكر صراخها أيضاً بعد ذلك، لكني تعودت على صوتها، وأحببت جداً دفاعها الدائم أمام أي شخص يأتي شاكياً عليّ، فلم أكن موظفة مثالية، كنت أحياناً أخيب ظن الجميع بي، ولكنها كانت تدافع بشراسة عني أثناء غيابي، لقد كانت بالفعل "أمي"، وأعترف الآن أني أحبها جداً، وحينما طلبت مني الخدمة اغرورقت عيناي بالدموع، لأنني لم أقل لها مرة واحدة كم كنت وما زلت أحبها واحترمها. أغلقت الهاتف وطفرت الدموع من كل جسدي، من يقول إن الدموع تخرج من مقلنا فهو كاذب، الدموع يمكنها أن تخرج من كل مكان في أجسادنا، حتى من أصابع يدينا العشرة، وأثناء حديثها معي والذي لم يتجاوز السبع دقائق، للحظة كنت أود أن أعتذر لها، عما فعلته معها، عن أكواب القهوة التي كنت أقدمها لها، وكانت تستلذ بطعمها، لم تكن تعرف أنني حينما كنت أغضب منها، كنت أحرك القهوة بأغصان النباتات وأذوب فيهم السكر، وأحياناً آتي بقلم الرصاص بديلاً عن الملعقة، وذات مرة وضعت دبابيس في كرسيها، ومرة أخفيت حقيبتها السوداء داخل إحدى خزائن مكتبها، وظلت تصرخ وحينما شعرت بالخوف، كعادة كل الصغار أخرجتها وقلت لها ووجهي سينفجر كبالونة "I found it"، كانت السيدة بمثابة الأم لي، لكني كنت أخشاها جداً، وكنت أنفس غضبي منها ببعض الحيل التي أقوم بها بين الحين والآخر. قبل أن تغلق السماعة كنت أود أن أقول لها، هل افتقدتي أكواب القهوة التي كنت أصنعها لك؟ لكني خشيت من سؤالها فالسيدة "افتخار" ذكية ولماحة، ولن يمر الأمر بسهولة أمامها. لكني ما زلت أتذكر اليوم الذي كان عليّ أن أترك العمل معها، لقد صدقت أنها أمي في تلك اللحظة التي اختفت فيها تماماً من مكتبها لساعات طويلة، ولم تظهر أمامنا، ولكن بعض الزملاء وجدوها في ساحة التدخين تشعل سيجارة تلو الأخرى، وهي التي قررت أن تقطع عادة التدخين بشكل نهائي. ولأن يوم الجمعة سيكون يوم الأم، ولأن السيدة "افتخار" ستبلغ الستين بعد خمسة أشهر، وهي لم يكن قد سبق لها الزواج أو الإنجاب، ولأن البعض ما زال يصر على أني كنت بمثابة ابنتها التي طالما أملت هي بإنجابها، فأود من خلال مقالي الذي حتماً ستقرأه وستضحك، لأقول لها: "لو عشت طول عمري أوفي جمايلك الغالية علي، أجيب منين عمر يكفي وألاقي فين أغلى هدية" كل عام وأنتِ بخير سيدة افتخار.