سائق سيارة الأجرة المرخصة ملاكي، والمصنَّفة شرطياً بالمخالِفة للقوانين، يحتفظ على هاتفه المحمول بصور صحافية ومعلومات عنكبوتية وتعليقات زملائه من السائقين، ويقول إنها المرة الأولى في حياته التي يهتم فيها بـ «قضية سياسية». والموظف الحكومي الذي لا يذهب إلى مقر عمله إلا لتوقيع الحضور ثم ينصرف، وأحياناً لتوقيع الانصراف قبل أن يدلف إلى المقهى، يتهكم ويتفكه على الحكومة التي تلوّح بموظفيها العالة عليها، وبيروقراطييها الثقيل ظلهم، ولا يفعل شيئاً هذه الأيام إلا «شير للفضيحة» و «لايك» لزملائه من جيوش التتار الإداري في الدولة. والطالب الثوري الذي لا يتوقف عن المطالبة بالإسقاط والمجاهرة بالرحيل والمشاتمة من أجل «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، يعتبر القضية نقطة مفصلية ويتفاءل خيراً بقرب السقوط، ودنو الحل الثوري، وإن كان يعترف بغياب التفاصيل وغموض الأساليب. أما عموم الشعب، فلا حديث لهم أو اهتمام يجمعهم أو سجال يعصف بجلساتهم إلا سجال «اللبان». و «اللبان» الملقب بـ «علي بابا» تارة، و «عنتيل الرشوة» تارة أخرى، وقضيته المنعوتة بـ «قضية الفساد الكبرى»، وجنيهاته ودولاراته المليونية المشار إليها بأنها «في زكايب» (جمع زكيبة) ينوء «حرامية علي بابا الأربعين عن حملها»، والمرصوصة في «مغارة أعمق من مغارة علي بابا نفسه»، وتفاصيل ما جرى في مجلس الدولة، والتي يختلط فيها حابل المعلومات بنابل القيل والقال وقلك وبيقلك، والأرض الخصبة والفرصة الذهبية للإشادة بالرئيس والإثناء على الحكومة، وفي أقوال أخرى «إخوانية» التنديد بالانقلاب والتذكير بمن أتى لتطبيق شرع الله، وثالثة ثورية باكية على أطلال الميدان ومنتحبة على حائط الثوار... بات شغل المصريين الشاغل مع استهلال العام الجديد. الجديد في القضية يتم تفجيره على مدار الساعة، وذلك بين معلومات إضافية يجري الكشف عنها بعناية ودراية، وتحليلات حنجورية تدور رحاها تحت ضغط برامج الـ «توك شو» والحاجة إلى مادة ثرية ساخنة تضمن التصاق المشاهد بالشاشة بعد انتهاء فورة الاحتفال بالعام الجديد، وتنظيرات شعبية تعيد إلى الأذهان تلك التي سادت وقت حديث «الأموال المنهوبة» و «البلايين المستردة» (التي لم تسترد حتى اللحظة)، حيث عمليات جمع وقسمة على أفراد الشعب بعد إسقاط نظام الرئيس السابق مبارك قبل ستة أعوام بالتمام والكمال. كمال العنصر الدرامي وتمام العامل السردي في قضية الرشوة الكبرى التي تفجرت تفاصيلها في ربوع المعمورة قبل أيام، يبقيان ملايين الشعب منشغلة منغمسة في «علي بابا مجلس الدولة». مدير مشتريات مجلس الدولة أحمد جمال الدين اللبان قدم لملايين المصريين ما يكفيهم للبقاء في فلك التنظير ومدار التنكيت ومجال استحضار «زمن الرشوة الجميل» و «الفساد الوسطي اللطيف» حين كانت الرشاوى أحادية وعلى أوقات متفرقة، وتتراوح بين سياسة درج مفتوح، حيث ورقة بخمسين جنيهاً ملفوفة في قصاصة جريدة أو حقيبة بلاستيكية تحوي خمسة أو عشرة أو حتى مئة ألف جنيه يجري غسلها أو تتحول شقة في مدينة جديدة أو تستثمر في شكل مشروع تجاري صغير لا يلفت الانتباه. لكن أن تتقاضى رشاوى على مدى سنوات طويلة من دون لفت الانتباه، وتكتنز الملايين مرصوصة في حقائب في داخل البيت، وتتنوع العملات بين جنيهات مصرية متوعكة ودولارات أميركية متوحشة، وأخرى من بلاد السند والهند، وكذلك الغرب والأقصى، بالإضافة الى 11 فيلا متنوعة وشاليهات متناثرة وحسابات بنكية متوغلة، وسيارات فارهة لا يراها المصريون إلا نادراً في شوارعهم، بالإضافة الى خزانة حديد أقرب ما تكون إلى الغرفة الفولاذية تحوي كل ما لذ وطاب من صنوف الأموال والمشغولات الذهبية، فهذا ما يدفع المصريين في هذه الآونة، الى استعادة ذكريات الكسب السريع، وتأليب مواجع الفساد الرهيب، وتقليب مشاعر الحنق الشديد الذي لا يخلو من تساؤلات عن حجم ما خفي من قضايا نهب ورشوة وفساد، وهو على الأرجح أعظم وأفظع وأرهب. وحيث أن ما خفي يظل أعظم، فإن ما ظهر في بر مصر في تاريخها الحديث من قضايا فساد يعاد تدويره هذه الأيام في مناسبة «علي بابا المشتريات»، فمن «ملياردير الفراخ الفاسدة» في السبعينات إلى «المرأة الحديد» صاحبة الأراضي والعقارات برخص التراب وتوظيف الأموال والقروض في الثمانينات، إلى «حوت مدينة نصر» والفدانات والعقارات والأراضي غير القانونية في التسعينات، إلى سلسلة من «العناتيل» في المحلة الكبرى ودمياط ودسوق والشرقية وغيرها حيث اختلاط الرشاوى الجنسية بالمكاسب المادية في العقد الأول من الألفية، إلى قضايا فساد كبرى لمسؤولين في العقد الثاني من الألفية ذاتها تراوحت بين وزير للزراعة، وآخر للتموين، ومسؤولين في الصرف الصحي والمجتمعات العمرانية الجديدة، وطبعاً الأحياء والمحليات وغيرها، يستحضر المصريون ما تيسر من قضايا فساد وفضائح رشوة. ويبدو أن العام الجديد يأتي حاملاً المزيد من الدراما والكثير من التفاصيل التي يطرب لها المصريون، وتشغلهم سلباً وتملأ فراغهم وتخفف من أوجاعهم الاقتصادية، فالساعات الأولى من العام الجديد حملت سقوط قطعة جديدة من قطع «الدومينو» التي يدفع بعضها بعضاً إلى السقوط. تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا مع الأمين العام السابق لمجلس الدولة، أوضحت وجود صلة مالية بينه وبين «علي بابا» وأرضية رشاوى وفساد مشتركة بينهما. الأيام الأخيرة من عام 2016 الماضي، شهدت دقاً رسمياً، وتحديداً رئاسياً، على أوتار الفساد، فالرئيس السيسي تحدث باستفاضة عن «الأجهزة الرقابية التي لن تستطيع مجابهة الفساد وحدها»، وضرورة محاسبة أي فاسد مهما كان موقعه ومنصبه حتى لو كان هو شخصياً، مضيفاً: «أنا شخصياً مستعد للمحاسبة»، وخروجه عن نص خطابه في مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وتوجيه التحية إلى جهاز هيئة الرقابة الإدارية، والذي أسقطت جهوده عدداً من كبار الفاسدين في الدولة. 26 جريمة رشوة كبرى، و12 واقعة اختلاس، و45 ألف طن سلع مهربة، حصيلة شهرين فقط قبل وقوع «علي بابا مجلس الدولة»، والبقية تأتي. وما يأتي هذه الآونة من أحداث متواترة لا يخلو من أمارات الاستقطاب والتحزبات حيث ملايين المصريين يغردون تحت هاشتاق «مصر بتنضف»، متمسكين بتلابيب أمل لمواجهة الفساد والمفسدين والـ40 حرامي الآخرين، وآخرون تسيطر عليهم لعنة التسييس والتمثيل والتغييب حيث القضية مفتعلة من الحكومة لصرف الأنظار عن محاكمات «الإخوان» أو مطالب الثوار، وهلم جراً.