عاشت الكويت قبل عصر النفط تحت خط الفقر، وعانت الكثير من الأمراض والأوبئة والمجاعة والتخلف، ولكنها تحملت قسوة تلك الظروف متمسكة بقيمها المستمدة من دينها وعاداتها الحميدة، التي تجلت بأجمل صور التكافل والإيثار والمحبة والثقة بين أفراد المجتمع، بعضهم ببعض، وبين الحاكم والمحكوم، فكان المجتمع متماسكاً وقوياً. وما أن حلت دولارات النفط، ابتداء من أوائل الخمسينات، وما بعدها، حتى حل معها إعصار من سلوكيات أثرت سلباً جاء بها هذا النفط، ولم يعهد المجتمع الكويتي لها نظيرا، وما كان للكويت من بد سوى الانحناء لهذا الإعصار والسير قرب الجدران لشدة ما فيه من مغريات، وهو ما أدى إلى حدوث فجوات في القيم المجتمعية والاقتصادية والسياسية، وعلى وجه الخصوص ما حدث من تغير كبير في التركيبة السكانية. تحتاج الكويت إلى وقفة مع النفس لردم هذه الفجوات والانطلاق مجدداً لبناء مستقبل يقوم على قيم عصرية نابعة من أصول الدين وثوابت الأمة والعادات الحميدة والعقد الذي تعاهد عليه الكويتيون حكاماً ومحكومين، وحتى تكتمل الصورة فإنه ينبغي الأخذ بالاعتبار عنصر النفط ودوره في الرفاه والتقدم ليحقق مصالح الأمة والفرد معاً. من هذه القيم معنى الاستخلاف على ثروة النفط قال تعالى: «لنستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم»، سورة النور، فكيف تحقق التمكين به والتملك له والسيادة عليه. في بداية عصر الأمير الراحل عبدالله السالم أراد أن يختبر قيمة الاستخلاف، وهي حق التمكين والتملك، والسيادة على هذه الثروة، فطلب في يوليو 1950 من شركة نفط الكويت زيادة حقوق الملكية، بعد مفاوضات جادة ومنهكة انصاعت الشركة لرغبة الأمير وتم له ما أراد. ومن القيم الواجب إدراكها والعمل بها، الائتمان على الثروة، قال تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها» سورة الأحزاب، فلا ينبغي أن تهدر هذه الثروة ولا أن يفرط بها ولا تستخدم لالحاق الضرر بالإنسان الآخر، مع اعتبار هذه الثروة وقود التنمية وحصانة الرفاهية، وأن تحصن من أن تستخدم في الحروب، ومن القيم أيضاً توزيع خيرات النفط على الأغنياء والفقراء بعدالة تامة. هذه الثقافة تقوم مثلاً على الإيمان ب «إنسانية النفط»، تلك الإنسانية التي تدفع مالك النفط للشعور بحاجة الإنسان الآخر، أينما كان لهذه المادة حتى يعمل على توفيرها إلى أخيه الإنسان. هذه الثروة هبة من الله فلا احتكار لها، وتسري عليها القاعدة الرئيسية في نظام الاقتصاد الإسلامي الذي يقوم على تفتيت الثروة لا تركيزها. ومن المهم جداً أن تكون هناك قيمة خاصة بالدورة الإنمائية التي تستهدف تعظيم القيم المضافة على مدى زمني بعيد، هذه الدورة الإنمائية تتكون من سبع مراحل وهي: البحث والاستكشاف، الإنتاج والتصفية، النقل والتوزيع، التخزين، الترشيد ثم الإدخار، وتنتهي الدورة بالمرحلة الأخيرة وهي نظام المبادلة Offset، هذه المراحل ترتبط بعضها ببعض بما يحقق كامل الفعالية الإنمائية لاستخراج الثروات البترولية استراتيجياً. وهذه القيم أيضاً تجعل من النفط أمناً واستقراراً ورخاء وازدهاراً للبشرية جمعاً. هذه القيم وأمثالها، تشكل أرضية معرفية للثقافة النفطية، وإذا ما تمت ترجمت هذه القيم إلى سلوكيات يومية يعيشها الكويتي ويحميها من الانحراف والضلال، فلن يكون لها وجود وستزداد الفجوات اتساعاً وتندثر الهوية الكويتية تباعاً. باختصار الثقافة النفطية ليس المقصود منها العلم بالأرقام والأحداث والمناسبات النفطية، بل هي ذلك السلوك الحميد الذي ينبع من الفؤاد إلى الفؤاد ليفيض على البشرية سلاماً وحباً ورفاهاً. ملاحظة: يضم الدستور الكويتي جملة من المصطلحات والقيم والمعاني المتعلقة بالنفط كثروة طبيعية، ولكل من أراء التزود للإحاطة أكثر بهذا الموضوع أن يرجع إلى الدستور، وعلى وجه الخصوص المادة 21 ونصها كما يلي: «الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك الدولة، تقوم على حفظها وحسن استغلالها وفق مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني)، كما أنصح القراء الكرام بقراءة نص المذكرة التفسيرية لهذه المادة للاستزادة مما توصل إليه المشرعون من إيضاحات وشروح عصرية راقية تحاكي الزمن الذي نحن فيه. المهندس أحمد راشد العربيدTweetr@aarbeed