د. عبد المنعم المشاط ليس هناك شك في أن الحرب الأهلية السورية هي مرآة لكل من الصراع الدولي والتنافس الإقليمي، وأنها تنعكس في الوقت نفسه على الاستراتيجيات الدولية والإقليمية بصورة أكثر تعقيدًا مما حدث في العراق وأفغانستان. لأهمية سوريا الجيواستراتيجية وتجاورها لتركيا والعراق والأردن ولبنان و«إسرائيل»، ووجود مصالح عربية متعارضة بها.إضافة إلى كل ذلك، هناك تحوّلات دولية كبرى تلعب دورها في مسار الواقع السوري كوصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، فضلاً عن تعقد الوضع في الشرق الأوسط والوطن العربي، ناهيك عن إعادة تسليح المنظمات الإرهابية وقوى المعارضة التي تؤيدها الولايات المتحدة وتركيا وبعض الدول الإقليمية و«إسرائيل». وقد تبلورت تلك التعقيدات، من ناحية، في قيام الولايات المتحدة في إبريل بإطلاق 59 صاروخ توماهوك على قاعدة الشعيرات السورية، ومن ناحية أخرى، تحوّلت مدينة سوتشي الروسية إلى مقصد لزعماء دول مهمة في الأزمة السورية، منها، الرئيس التركي رجب أردوغان، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وفيدريكا موجيريني المسؤولة عن الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، وثالثاً النتائج الاستراتيجية المترتبة على «آستانا 4» والمتمثلة في الموافقة على المبادرة الروسية بإنشاء 4 مناطق لوقف التصعيد/ المناطق الآمنة في كل من شرق الغوطة بريف دمشق، ومحافظة إدلب ومحافظة حمص والجنوب السوري المتاخم للحدود الأردنية، كل ذلك استعداداً لمحادثات جنيف المتعلقة بالتسوية السلمية للحرب الأهلية السورية.والحقيقة أنه منذ استخدام الولايات المتحدة لصواريخ توماهوك ضد سوريا، تجري تحوّلات أمنية واستراتيجية ضخمة، سواء في العلاقات الأمريكية الروسية أو الأوروبية الروسية أو التركية الروسية، والتي من شأنها أن تدفع بروسيا -ربما- إلى اتخاذ قرارات أليمة بالنسبة لمستقبل سوريا، تلك التحوّلات وضعت سوريا بين مطرقة القوى الدولية الكبرى وسندان الدول الإقليمية، هذا فضلاً عن تَنَمّر الإرهابيين والمعارضة المسلحة السورية، فقد قررت الولايات المتحدة المشاركة ولأول مرة كمراقب في اجتماعات «آستانا 4» في كازاخستان بمشاركة القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ستيوارت جونز، وذلك استجابة لطلب بوتين في مكالمته الهاتفية مع ترامب، وإن كان ترامب قد طلب منه إنشاء مناطق آمنة في سوريا تمهيداً للحل السلمي، وفي الوقت ذاته، قام الرئيس التركي أردوغان بزيارة لروسيا، تمت فيها مناقشة سبل توثيق التعاون الاقتصادي والمالي والعسكري بين الدولتين، بما في ذلك احتمال إلغاء التأشيرات على مواطني البلدين وإمكانية إقامة قاعدة بحرية روسية في ميناء مارسين التركي في مقابل الدفع بإنشاء مناطق وقف التصعيد/ مناطق آمنة في سوريا، وفي الوقت نفسه تحقيق رغبة تركيا في الإفلات من الانتقادات الأوروبية بعد استفتاء 16 إبريل وتعديل الدستور التركي، بما يحوّل النظام السياسي إلى رئاسي يفتح الطريق أمام أردوغان لحكم تركيا حتى عام 2029، يضاف إلى ذلك أيضاً أن أنجيلا ميركل زارت بوتين في سوتشي لأول مرة من عام 2015 لبحث مسألة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ودورها في تشجيع عدم الاستقرار في شرق أوكرانيا، هذا فضلاً عن مناقشة الوضع في سوريا، وتناولت المباحثات أيضاً مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية والأوروبية لمساندة اليمين المتطرف على حساب الأطراف الأخرى، وحث بوتين على تحسين أوضاع حقوق الإنسان بالنسبة للمعارضة السياسية والمتظاهرين ضد الفساد، وإلا استمرت العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا. ويبدو أن بوتين أدرك ضرورة تغيير الاستراتيجية الأمنية والسياسية في سوريا؛ ففي مؤتمر «آستانا 4»، والذي يعقد بمشاركة روسيا وتركيا وإيران كدول ضامنة للتسوية السلمية في سوريا، والمعارضة العسكرية السورية والحكومة السورية ومبعوث الأمين العام ستيفان دي ميستورا، قدّم المفاوض الروسي ألكسندر لافرنتيف مبادرة لضمان سريان وقف إطلاق النار، مضمونها إنشاء أربع مناطق لوقف التصعيد/ مناطق آمنة، وتقضي المبادرة بوقف كافة أشكال المواجهات باستخدام أية أسلحة، ووقف الطيران الحربي فوق تلك المناطق، تمهيداً لعودة اللاجئين والنازحين وتيسير تقديم المساعدات الإنسانية، على أن يتكاتف الجميع ضد «داعش» وجبهة النصرة/ تحرير الشام وبقايا فلول القاعدة، وتتولى الدول الثلاث الضامنة إدارة هذه المناطق الأربع مع إمكانية إرسال قوات روسية وإيرانية وتركية للفصل بين الجيش السوري من ناحية، وقوات جماعات المعارضة من ناحية أخرى لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد.وعلى الرغم من أن روسيا لم تكن متحمسة لفكرة مناطق وقف التصعيد/ المناطق الآمنة، وسبق أن ساندت الحكومة السورية في رفض إنشاء تلك المناطق، إلا أن الضغوط الأوروبية والأمريكية عليها، فضلاً عن الرغبة الأكيدة في تطبيع العلاقات بين الطرفين عشية قمة العشرين في هامبورج بألمانيا في شهر يوليو القادم واحتمالات اللقاءات الثنائية بين ترامب وبوتين، وميركل وبوتين، دفعت روسيا إلى التقدم بهذه المبادرة تعزيزاً لوقف إطلاق النار، كما صرّح لافروف وزير الخارجية الروسي بذلك، ولاستمالة منظمات المعارضة التي تشكك كثيراً في نوايا الجانب الروسي وترفض الدور الإيراني، وتمهيداً كذلك لاجتماعات جنيف القادمة، وربما تخشى روسيا أيضاً بأن الحرب في سوريا بتعقيداتها الراهنة تعد حرباً طويلة المدى تجهد جميع الأطراف وتسيء علاقات روسيا ببعض الأطراف المساندة للمعارضة، ولا شك أن بدء تطبيق مناطق وقف التصعيد/ المناطق الآمنة، يشكل انتصاراً غير مسبوق للمعارضة والمنظمات الإرهابية، التي تَغوَّلت في سوريا، والتي تدعمها الولايات المتحدة وتساندها تركيا بقوة، إذ إن مناطق وقف التصعيد تشكل نقطة ضعف خطرة للنظام السوري لأنه يمارس عليها سيادة منقوصة، وربما يقود ذلك إلى تقسيم فعلي لسوريا خصوصاً في المناطق الجنوبية المعرّضة للانفصال، هذا فضلاً عن مناطق الأكراد في الشمال، ناهيك عن المساحات الشاسعة التي تحتلها «داعش»، ويبقى السؤال هل يمكن، في ضوء الظروف الاقتصادية الصعبة في روسيا والتحديات الأمنية والعقوبات الأمريكية والأوروبية عليها، أن تقلل من تمسكها بسوريا ودورها الاستراتيجي هناك؟تستلزم المصالح الأمنية والاستراتيجية الروسية ومكانتها الدولية ومصداقيتها الإقليمية الحفاظ على النفوذ الذي اكتسبته خلال السنوات الماضية في سوريا، إذ يشكل ذلك رصيداً لروسيا ولرئيسها بوتين يصعب التخلي عنه، وإن كان يمكن الاستفادة منه في المساومة السياسية مع الولايات المتحدة وأوروبا من ناحية، ومع تركيا والدول الإقليمية من ناحية أخرى، بالإضافة إلى عدم الرغبة في إغضاب «إسرائيل» التي تضم ما يربو على مليون يهودي من أصل روسي، هكذا، يضيق الخناق على سوريا بفعل التوازنات الدولية المعقدة والمواءمات الإقليمية المعادية، على الرغم من أن كل هذه الأطراف قد ينتهي بها الأمر إلى الاعتقاد بأن وجود بشار الأسد يشكل نقطة توازن ضد تفشي الإرهاب في سوريا والعراق ومنطقة المشرق العربي بأكملها.