(1) "فإن قالَ لا أهوى.. فليسَ بصادقٍ وإن قالَ أهـوى.. أخْجَلَتْهُ المذابحُ!". سلبتنا المذابح نور صدورنا وأغلقت نوافذ القلب، خلقت هواجس أكبر من أعمارنا، ومن حكايات الرعب التي نردد، ومن صورة الشرير في أذهاننا. صار الحب ملحمياً كالسياق الذي وُلد فيه، والصداقة تعقد على الدماء ساخنةً، وقنابل الغاز. لكن الملاحم ترتبط بالخسارات كما تقول الكتب، فهل كان لزاماً علينا أن نخسر أنفسنا وجميع من نحب؟ هل تضحيتنا هي السبيل الوحيد لاستمرار السباق؟ صدقنا أننا الأبطال بينما كنا مخابيل نشاهد من الدرجة الثالثة والكرة بعيدة جداً! وفي ختام المباراة، كنا نلهث بلا أهداف أحرزناها، ولا مجد صنعنا، ولا حتى سعادة النصر. مخابيل، صدقوا أن بيدهم تغيير البلد لمدينة عادلة! بتنا نؤرخ لأعمارنا بالحوادث الكبرى وبما كسبناه وخسرناه فيها. "إلي بيهتفوا في مظاهرة طب"، ",اتعرفنا في اعتصام نوفمبر"، " قبل أحداث رمسيس" ، "بعد اقتحام الجامعة بتاع يناير"، "صيدلة يعني خمسة مارس الأسود"، "ساعة هجوم هندسة الأولاني"، "مكان موقعة آداب" . شهد كل منا بعضاً من الحقيقة وأصبح هو -ذاته وذاكرته- جزءاً منها. ولم نعد نحتاج أن نعرف أكثر من اسم المقتول أو المأسور لنغضب له ونبكي عليه ونستعد للتضحية ببعض أيامنا وشبح حريتنا -ودمنا إن لزم الأمر- من أجل خلاصه. (2) "كل شيء يُنسى يا صاحبي، كل شيء إلا الفُرْقة". أنا أكره الموت، ولم أصدقه ولا مرة. أكذّب حتى دلالاته في وقع "الله يرحمه، يرحمها!". لا أقولها عنهم عامدة، فقلبي لم يصدق بعد. أرفع الصوت إذا أصابتني مصيبة "أنّي لله"، وبأني سأحتاج بعض الوقت. يكون الصبر عند الصدمة الأولى، والفاجعة أخته التي لا تفارق. لكني لويت عنق المضغة الهشة، ورددت كالببغاء "الصبر ضياء" وسوف أتألم بعد حين. وتترى ستروّض الأيام شراستي في الخداع والمناورة. هذه الأيام -التي لا تأتي أبداً- أضحت سنوات، وأنا لم أتفوه بها بعد! الرحمة لنا نحن يا صاحبي!، فالحيّ يشعر وتذبحه البقايا، وما تقدم من العمر، والميت تشغله مخاوف أخرى. وخوفي في حاجة سوداء إلى ضمة -لا تنفك- تجود بها صورة الأم والأخت. أعرف أن الناس ترحل، وأن الموت حق، وأن الدوام محال. و قد كان هذا كله من قبل واجتزت به. و ما زال يوجعني! سيظل يوجعني إلا إن نبت لي فرع من خشب، ودفنت جذوري حيث سقطت آخر مرة. أبتهج بالسفر الطويل، والتعب الذي لا أعرف له موعداً، والمجهول، لكن ما يؤلمنى -بلا توقف- هو شوك الوحدة الذي انغرس في كعبي؛ كلما خطوت غاص في لحمي وصار بعضاً منه. كل شيء يُنسى يا سيدي، لكن بعضنا لا يُنْسِى بعضه. (3) "خائفة.. كيف أحكي عن خوفي يا صاحبي، وأنا أخطأ بينه وبين صورتي في المرآة؟". كنت بحجم حبة أرز، جاء صغير وحبسها ببالونة سوداء وأخذ يملأها. هي لا ترى الدنيا إلا من ظلامها، اكتحلت الموجودات كلها به. وحين أتى أوانها خرجت وأبصرت بعين الأعمى أسرها الطويل، فقاعة وهواء، لكنها من الداخل كانت عالمها كله. وخلف الضلوع؛ كان قلبي يشبه كثيراً حلوى هلامية، سائلة وأي شيء ألقيته فيها يستقر في القاع، وكلما تجمد أصبحت أشياؤك جزءاً منها، من لونها ورائحتها، ولا تخرج إلا وقد أخذت منه معها. بعد سنين الوحشة السِتْ، تساقط كل شيء، وكبرت على مهل. نضج القلب الملتهب، لم يعد لأحد أن يترك به بقاياه ولا لما مضى أن ينحبس به، استقرت الحلوى في قالب واتخذت شكلها، ما زالت رخوة وهشة وتتمايل مع أي هزة، لكن حجراً لا يبلغ كبدها بعد اليوم. (4) "فتشتني الدمعة عن مية.. كنت أنشف من حطب محروق.. شوفلي عود أصلب من المغشوش". انفتح الجرح يا سيدي، ويُحزن مشهده. تمزقت نفوسنا مائة قطعة؛ بعضها خلف شهيد وقعنا على ميتته وتصاعد روحه سكرة سكرة. وآخر خلف سجين -سبقتنا إليه عربة الترحيلات- وبعضها في ألم الظهر؛ يذكرك كل ثانية بالجرح، وتكسرت البقية في شتات النفس، كلها تؤلم يا سيدي كلها، ما زالت تؤلم. كانت الحمولة أثقل من سعتي وطاقتي فكتمتها، ومعها شعث البلد، ورهاب الأَسر، وبقية الكرامة. كأن الحياة جلَّها انحبست في طاقة صغيرة وتقيحت، ثم خيطت بيد متردد منهزم! وأنكرت ما جرى فكانت ثمة قشرة كالحجارة أو أشد قسوة أحاطت بنفسي تماماً. وبعد سنوات عجاف، كأنه صار لك ألف شهيد وستون ألف مزوِّيٍّ وراء قضبان والعجز المكبل. وبقي أمامك طريقان: إما أن تجري هرباً ومتصنّعاً السعي، وإما أن تمسح ذاكرتك وشِطر نفسك وتطأطئ رأسك. (5) "خذ من أحزاننا صدقة تطهرنا وتزكينا يا خالق الحزن والبأس". ليلة حافلة مثلها حُق لها أن تنتهي بعفوية هكذا فيطلع الصبح دون تباشير. سبع عشرة إبرة تنهش اللحم بحثاً عن مسرىً إلى الجسد، لا وريد هنا أو هناك، تمزق ما حولها وتخرج خاسرة، فتأتي الزُّرقة من بعدُ. تقول السيدة في أول الكلام:"أنت صبور يا ابنتي"، تجري وراء الدماء بيأس، تتعرق.. ينتفخ من بعدها كل موضع، تهتدي لشق ما، ويسري السائل حارقاً. تقول: "أنتِ حمول جداً لو تعلمين! وتذهب. أوشك أن أناديها لأخبرها بأني أعرف، وأن سنان محاقنها تلك ليست شيئاً يجهله هذا الجسد الضئيل. أوشك أن أتحسس كل ندبة لنتصادق قبل أن تفرض وجودها عليّ، أوشك أن أحسب للألم كم مضى وأعتد لكم سيبقى. تكاد ابتسامة أن تفالتني، ولا يحسن بالوجه أن يكتمل، وتحسن العين تشف ما وراءها. أكاد أذكر كل ألم وكل قارعة هونتها فهانت، وكل نازلة قصمت الظهر وأتمتم: "مش هيبقى أغلى من الي راح". (6) "أرجو الحب الذي به تكتمل إنسانيتي وأكبر". بحثت عنه فيما اختلطت به نفسي، فوجدت الأكتاف الساندة. عرفت من معني الحب ذلك الذي يقرّ في القلب ويصدقه العمل، باختلاف صورة المهدى إليهم قلوبنا. الفراغ الذي يتسلل رويداً للنفس ولا يسكن إلا بالوصل، الأفراح التي لا تتم إلا إن تقاسمناها؛ بل لا نقيمها إلا متصاحبين، الأحزان التي لا تخفت إلا إن طرحت عند ذاك المقام، الآلام التي تبارحنا ولم نصب بها يوماً. الحكايات.. حكاياتنا التي لا نحتاج لسردها وقد خبرناها معاً نصنع تاريخنا الشخصي. كانت عدتنا الصبر وتعلُّل النفس بأوجه الخير ساعة الأذي. لِم مُنعنا كل ذلك وامتدت الوحشة، بقي الحب صادقاً وحقيقياً كأول أمره، فعلمت أنه كان خالصاً وامتننت أن القلب يجرؤ على ضخ دمائه نقية بلا زيف. (7) وآن أوان العزْمِ الحق؛ فإما حياة نرضى عنها ونلقاه بها وإما سعي في الأرض نجد مُراغماً كثيراً وسعة. "ونور الله هو غايتنا في عتمة الظلم". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.