لا تمرّ مناسبة للحديث لتمييز العلاقة بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح إلا ونسأل دائماً: لماذا لا تكتبون الشعر الشعبي؟ هذا السؤال المتكرر والمُلحُّ يظهر بشكل خفيّ أنّ المتلقي يعي - من جانبٍ - أنّ الشعر الشعبي أكثر حضوراً وأقوى تأثيراً، ومن جانب آخر لا يعي ما يقوله الشاعر الفصيح إلا لماماً. سأعترفُ - شخصياً - ولا أحمّلُ غيري من شعراء الفصيح هذا الرأي، أنّ الشعر الشعبي كسب الرهان وكسب المعركة القديمة - إن كان ثمة معركة - بينه وبين الشعر الفصيح، فالشّعر الشّعبي أكثرُ أمسياتٍ وأكثرُ جمهوراً، وأكثر تفاعلًا إعلامياً مرئياً ومقروءاً، ويحظى بدعم مؤسسي وحكومي، بينما الشعر الفصيح فالشعراء الذين تحضر أمسياتهم قليلون، بل لا يتجاوز عددهم أصابع اليديْنِ، والبرامج الثقافية المعنية بالشعر الفصيح لا تتابع إلا من أصحابها، بل فشلت برامج مرئية قدمها شعراء بارزون!!. وحين تلتفتُ إلى المسابقات فإنك تسمع ما يهول العقل فجائزةٌ لمسابقة في الشعر الشعبي في بلد واحد مثل السعودية تعادل في قيمتها المادية والإعلامية والجماهيرية جميع مسابقات الشعر الفصيح في الوطن العربي!!، وسأضرب على ذلك أمثلة، جائزة السنوسي في جازان قيمتها 25 ألف ريال فقط، وجائزة امرئ القيس في نادي القصيم الأدبي مقدارها 150 ألف وماتت بعد عامها الأول!!، وجائزة عبدالعزيز البابطين في الكويت لا تتجاوز مائة ألف دولار، أما مسابقة واحدة في الشعر الشعبي فجوائزها 24 مليون ريال للشيلات والمحاورة. هنا يكمن الفرق، فالشعر الشعبي أكثر تأثيراً وأسرع إلى القلوب. إن الاعتراف بالحق فضيلة، لقد غلب شعراء الشعر الشعبي أقرانهم في الشعر الفصيح، وتهاوت مملكة الشعر الفصيح في أحضان قصيدة النثر وشيئاً من التفعيلة، وإن كان سدنة الشعر التناظري ما زالوا ينافحون عن هذا الكيان. ولكنهم محاصرون بين فنّ الرواية الذي زاحم عرشهم الأول ولم يعد الشعر ديوان العرب، وبين الشعر الشعبي الذي يملك كل مقومات الحضور والجمال والتفاعل مع المتلقي، بل إنّ من شعراء الفصيح من يهرب بين الفينة والأخرى ليكتب قصيدة شعبية لتكسبه مساحة أخرى من التلقي الفاعل. لا عزاء لنا، سوى أن نكتب الشعر لنا، ولخاصتنا من أصحابنا الذين يقرؤون شعرنا لواذاً بين أروقة المكاتب والمكتبات للبحث والدراسة فقط، وليس للشعر!. سأظلُّ أكتب الشعر الفصيح، لأنه قدري، ولأني أدركت أن أكتب لأجيال أخرى لعلها تسمع أنين الشعر الفصيح.