نكسة جديدة للمراهنين على فشل حزب العمال البريطاني برئاسة جيريمي كوربن، فقبل أسبوعين من الانتخابات العامة، حقق الحزب قفزة جديدة في التأييد الشعبي قلّصت الفارق بينه وبين حزب المحافظين من ٢٠ نقطة الشهر الماضي إلى ما بين ٩ و١٢ نقطة، أي النصف تقريباً، وفق أربعة استطلاعات للرأي. والأهم أن الفارق في الأصوات جاء من رصيد حزب المحافظين، إذ أن حزبي الديموقراطيين الأحرار و «الاستقلال» حافظا على نسبة تأييد ثابتة. ولعل النكسة الأكبر من نصيب خصوم كوربن داخل حزبه، ومعظمهم من أتباع رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير، وهم ما زالوا لا يصدقون أن كوربن انتزع زعامة الحزب منهم، ثم نجا من مؤامرة لإطاحته عندما انضم آلاف الشبان إلى الحزب لنصرته. وها هو يجبر الجميع على إعادة الحسابات، حتى الذين استخفوا به أو شككوا في قدرته على توفير الموارد لتنفيذ وعوده. الاستنتاج الطبيعي من نتائج هذه الاستطلاعات هو أن التراجع في تأييد حزب المحافظين مرتبط ببرنامجه لتقليص الإنفاق على الخدمات. ومن المرجح خسارة هذا الحزب المزيد من التأييد في ضوء سياسات اعتُبرت قاسية ورُبطت بثقته الزائدة بالفوز. فلنأخذ الموقف من رعاية المسنّين نموذجاً: لم تكد تمر أيام على إعلان المحافظين في برنامجهم أن على المتقاعدين والمسنّين دفع نفقات علاجهم ورعايتهم، حتى تراجعت رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي أمام الانتقادات الشديدة، وأعلنت فرض سقف لمساهمات المتقاعدين، وإن لم تحدد مستواه. فتحَ الإعلام عليها أبواب جهنم، وأخذ عليها أنها أول رئيسة وزراء بريطانية تتراجع، قبل الانتخابات، عن موقف ضمّنته في برنامجها، خصوصاً أن هذا التراجع يأتي في وقت تستعد بريطانيا لمفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكزيت). واعتبرت الصحافة أن ما حصل علامة ضعف في قيادة ماي تضرب في الصميم الشعار الذي رفعته، «أقوياء وثابتون»، علماً أن هذه ليست المرة الأولى التي تتراجع فيها ماي عن مواقفها، فما زال البريطانيون يذكرون أنها نفت مراراً نيتها الذهاب إلى انتخابات مبكرة، كما أنها تخلت عن تعديل في الموازنة خاص بالتأمين الوطني للعاملين لحسابهم الخاص. لكن الشعبية المتزايدة لحزب العمال لم تتأتّ نتيجة أخطاء المحافظين، وإن كانت تستفيد منها، بل هي مرتبطة بطبيعة برنامج العمال الذي ضرَب على وتر حساس لدى عامة البريطانيين المتبرّمين من سياسات تقشف أدت إلى تردي الخدمات الاجتماعية والطبية، وتراجع مستوى المدارس الحكومية وارتفاع الرسوم الجامعية وديون الطلاب بسببها، وعدم قدرة الشباب على امتلاك منازل للسكن، وغيرها. وهنا سر نجاح كوربن. طرح برنامجاً شعبياً واضحاً ومفهوماً يشمل زيادة الإنفاق على الخدمات العامة واستعادة دولة الرفاه، وتأميم قطاعات النقل والطاقة والمياه والبريد، وتحسين البنى التحتية، أي أمّن للبريطانيين الأساسيات الضرورية. ولتمويل هذه الإصلاحات، اقترح زيادة الضرائب على الشركات والأفراد الأكثر ثراء أو ذوي الدخل العالي. في زمن النيوليبرالية، اعتمد كوربن الراديكالية. اختار أن يعيد الحزب إلى جذوره العمالية الاشتراكية، وقدم برنامجاً بديلاً للحكم افترق به عن معسكر بلير صاحب «الطريق الثالث» الذي لم يكن سوى نسخة من طروحات اليمين التي تهتم بالنخبة المالية ومصالحها. قلب كوربن المعادلة، رافعاً شعار: «من أجل الكثرة وليس القلة»، وكل ذلك من دون «البروباغاندا» المكلفة التي ترافق الحملات الانتخابية عموماً، ومن دون دراما أو ألعاب سياسية. كعرب، كوربن هو الأقرب إلينا، وله في سياسته الخارجية مقاربة أخلاقية، وهذه تُحسب له، لأن لا أخلاق في السياسة كما يثبت مرة بعد أخرى. هو مدافع شرس عن حقوق الفلسطينيين. يرفض التدخل العسكري البريطاني الخارجي إلا كخيار أخير بعد استنفاد الحلول السلمية وفي إطار القانون الدولي. عارض حربي أفغانستان والعراق، ويقول إنه سيعتذر عن مشاركة بلاده في حرب العراق. يبحث عن حلول عادلة لقضية اللاجئين والمهاجرين. ويعارض امتلاك السلاح النووي واستخدامه، وهي قضية تؤثر سلباً في شعبيته، كما عكستها النقاشات والاستطلاعات. لكن الاستطلاعات عموماً غير مأمونة كمقياس، كما ثبت خلال الاستفتاء على «بريكزيت» وخلال الانتخابات الأميركية. ومن المبكر معرفة انعكاسات حادث التفجير في مانشستر على التأييد للحزبين، كما أن حظوظ العمال بالفوز ما زالت متواضعة. لكن ما زال أمام الانتخابات أسبوعان، فهل يحقق كوربن معجزة؟ هل يفاجئنا مرة أخرى ويفعلها؟