ليس دور العلوم السياسية أن تقدم النصح للحكام، بل أن تكشف حقائق الحكم ومناحي العدل والظلم في إدارة شؤون الناس وأنماط توزيع القوة التي تصنع الفوارق بين مجموعات المتنفذين والمالكين وبين من لا نفوذ لهم ولا ملكية مؤثرة. ولا تقتصر مهمة الدارسين على تفسير أسباب نشوء واستمرار نظم الحكم الديكتاتورية والسلطوية وفرص التحول منها إلى ديمقراطيات نامية ثم مستقرة ومتطورة. ليست هذه مهمتهم وحسب، بل عليهم أيضاً الاضطلاع بصياغة النقد الأخلاقي والمجتمعي للأوضاع السائدة حين يغيب العدل، وينتشر الظلم، وتصير الفوارق بين الناس هوة سحيقة تفصل بين القلة المسيطرة وبين الأغلبية المقهورة محل السيطرة. وتغيب المعاني النهائية عن أطروحات هامة يأتي بها بعض دارسي العلوم السياسية لإصلاح النظم الديكتاتورية والسلطوية، إن من داخلها أو على هوامشها، ما لم ترتبط بالتزام مبدئي بالدفاع عن حريات وحقوق المواطن، وباقتناع بحتمية تمكينه من المساءلة والمحاسبة السلميتين للحكام، ومن إدارة تداول السلطة وفقاً لاختيار الأغلبية، وفي إطار بناء ديمقراطي متكامل. دون ذلك تصير أحاديث الإصلاح والتحولات بمثابة واجهة فكرية وأكاديمية زائفة تكسب الديكتاتوريات والسلطويات مظهر الوجود الطبيعي (طبعنة الاستبداد)، وتتوارى بعيداً عنها حقائق وتفاصيل المظالم التي تعاني منها الأغلبيات المقهورة على نحو ليس له سوى أن يطيل عمر الظلم، ويفرد له مساحات مجتمعية إضافية، ويقدم له المزيد من الضحايا (استمرارية الاستبداد). وتغيب الغايات الكبرى عن أطروحات الإصلاح، ما لم تندرج في السياقات الأوسع والأعمق لرؤية شاملة للتغيير الديمقراطي والتنمية المستدامة. وحين تعرض مثل تلك الأطروحات على الناس بعيداً عن قاعات بحث العلوم السياسية وعن حوارات الأبواب الموصدة مع المسؤولين الحكوميين، لن يتأتى لها أن تحصد قدراً معتبراً من التأييد الشعبي ما لم يظهر جلياً أنها تقارب بين الأغلبيات المقهورة وبين دفع الاستبداد والظلم والفقر. بناء ومفيد أن يحدث اشتباك مع السلطوية الحاكمة في مصر لتعيين المساحات والآليات التي يمكن النفاذ من خلالها، إن للضغط بهدف الحد من الفساد والإصلاح التدريجي، أو لاستعادة توازن مفقود بين المؤسسات العسكرية والأمنية وبين المؤسسات المدنية، أو للمنافسة الانتخابية بهدف تقديم بديل لرئيس الجمهورية الحالي ونخبته لا يخيف أو يؤلب كل مجموعات المتنفذين والمالكين. على سبيل المثال، يمكن فيما خص مسألة الفساد الارتكاز إلى تمييز صريح بين صنوف منه يمكن اليوم مواجهتها لحضور إرادة الحكم، كالتعديات على الأراضي ذات الملكية العامة، واستغلال المنصب العام للتربح (فساد الأفراد)، وبين ما لا يمكن مواجهته لغياب تلك الإرادة، كشبكات المصالح الحاضرة داخل مؤسسات الدولة لحماية احتكارات كبرى في القطاعات الاقتصادية والمالية، وكالتفاوت الهيكلي في توزيع العوائد المادية وعوائد النفوذ داخل بنية الدولة بين مؤسسات تحابَى كالجيش والأمن والقضاء، ومؤسسات تهمَّش كوزارات الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة (الفساد المؤسسي). يمكن، ثانياً، التعامل بجدية مع المساحات والآليات ذات المظهر الديمقراطي والمضمون الاستبدادي، إن كالبرلمان الذي أجريت انتخاباته وتم تشكيله في 2015 بإدارة أمنية واستخباراتية بينة أو كمؤتمرات الشباب التي تديرها مؤسسة الرئاسة وتستنسخ تنظيماً ومضموناً ونتائج اليافطات القديمة وخبرات الماضي عن حوارات الرئيس الملهم والشباب المخلص. بعض دارسي العلوم السياسية الباحثين عن الإصلاح التدريجي يرى في البرلمان، وعلى الرغم من سيطرة رئاسة الجمهورية والأمن والاستخبارات الكاملة عليه، مساحة لشيء من العمل التشريعي والرقابي الجاد فيما خص الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسات التي تطبقها السلطة التنفيذية حيالها. بعضهم الآخر يرى أن آلية مؤتمرات الشباب حال استمرارها تقدم فرصاً للتواصل بين الحكم وبين قطاع شعبي مؤثر، ويتوقع أن القبضة الأمنية والاستخباراتية التي تحدد هوية "الشباب" المشاركين ونوعية "القضايا" المثارة وتعطي لرئيس الجمهورية وضعية "المتحدث والمعقب الأول" ستتراجع بمرور الوقت لمصلحة حوارات منفتحة وتعددية. متاح، ثالثاً، التفتيش عن سبل تضييق فجوة القوة والنفوذ داخل بنية الدولة المصرية بين المؤسسات العسكرية والأمنية المهيمنة وصاحبة السيطرة على رئاسة الجمهورية، ومراكز اتخاذ القرار في السلطة التنفيذية، وبين المؤسسات المدنية المستضعفة على الرغم من إسهامها المحوري في بقاء الدولة واستقرارها كالسلطة القضائية، والهيئات الرقابية، كالجهاز المركزي للمحاسبات. بغض النظر عن طبيعة وتفاصيل عمليات تقاضي ما بعد صيف 2013 والمظالم التي استقر في وجدان بعض القطاعات الشعبية كالشباب وطلاب الجامعات والعمال، وبعض المجموعات المسيسة كأنصار جماعة الإخوان، أنها نجمت عن عمليات التقاضي تلك، يصعب إنكار أهمية تمكين القضاء من مقاومة هجمة السلطة التنفيذية الراهنة عليه (قانون الهيئات القضائية نموذجاً) لمنع امتداد هيمنتها باتجاه اختطاف شامل للسلطات العامة ومن ثم للدولة. كذلك، ولأن النخب المدنية، إن المشاركة في المساحات والآليات ذات المظهر الديمقراطي كالبرلمان ومؤتمرات الشباب، أو المقاطعة لها تتسم بالضعف والهزال الشديدين، يصبح الدفاع عن استقلالية هيئات كالجهاز المركزي للمحاسبات ضرورة للاحتفاظ بشيء من أدوات الرقابة المدنية على السلطة التنفيذية ولدمج عناصر من غير العسكريين وغير الأمنيين في دولاب الحكم، ومن ثَم في بنية الدولة. أخيراً، وهنا يقع مصدر لتوليد طاقة جماعية تتجه إلى المقاومة المنظمة والعلنية للسلطوية الحاكمة، يمكن الدفع بأولوية الالتفاف حول "مرشح للمعارضة" قادر على المنافسة في الانتخابات الرئاسية 2018، والربط بين طرح "المرشح" على الرأي العام وبين الترويج لمقاربة للأوضاع الراهنة في مصر، مفادها أن فرص التغيير الديمقراطي ما زالت قائمة. فحالة مصر لا تختلف كثيراً عن حالات سبقت زمنياً لسيطرة المؤسسات العسكرية والأمنية على الدول والمجتمعات في عدد من بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا (توالت هذه الحالات منذ ثمانينيات القرن العشرين وتكررت خلال السنوات القليلة الماضية)، وانتهت إلى تحولات ديمقراطية ناجحة ما أن نزعت قوى المعارضة المجتمعية والسياسية إلى مقاومة السلطوية الحاكمة سلمياً عبر المنافسة في كافة المساحات ذات المظهر الديمقراطي الحاضرة، كاختيار رؤساء الجمهوريات وتشكيل البرلمانات، وبتوظيف كافة الأدوات ذات المظهر الديمقراطي المتاحة للاستخدام وفي طليعتها العمليات الانتخابية. لا تجافي الصواب الإشارة إلى أن تداخل المعارضة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يكسب أحزاب وحركات وقيادات وأفراد المعارضة هذه طاقات تنظيمية وخبرات في العمل الجماهيري بالغة الأهمية، ويضع السلطوية في معية مشاهد سياسية تحمل في طياتها بذور الاستعصاء على سيطرة الحكام والسيناريوهات المعدة من قِبل مؤسساتهم العسكرية والأمنية لإدارتها. وقد تتمخض الانتخابات عن نتائج غير متوقعة تعيد تعريف معادلات الحكم، وتحدث تغيرات كلية أو جزئية في تكوين النخب (والخبرة التاريخية محل العشق في هذا السياق هي شيلي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين). ولا تعني "المنافسة" في الانتخابات لمقاومة السلطوية الحاكمة الاكتفاء بمجرد طرح مرشح للرئاسة أو فرق من المرشحين للبرلمان (والمجالس المحلية إن حانت انتخاباتها)، بل لا بد من الربط بين طرح المرشحين وبين صناعة برنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي "بديل" يحفز الناس على الإنصات إلى المرشحين، ويضمن عدم تأليب كافة مجموعات المتنفذين والمالكين الملتفة راهناً حول نخبة الحكم، والبادي على بعض عناصرها التململ والقلق، ويستمر وجوده في النقاش العام بعد أن تجرى الانتخابات وبمعزل عن نتائجها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.