نجحت قمم الرياض في تطوير العلاقات العربية الإسلامية مع الولايات المتحدة، بإزالة سوء الفهم الذي علق بها في عهد باراك أوباما، واستبدال ما يمكن أن يسمى الجوانب الصراعية في هذه العلاقات بعوامل شراكة. لهذا اكتسبت تلك القمم أهمية سياسية غير مسبوقة، وفي الوقت ذاته عبرت عن رغبة حقيقية من المشاركين فيها في تجديد التعاون بين الدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة بما يفند صورة رسخت في ذهنية العقل الغربي عن العرب والمسلمين. أدى ذلك إلى الاعتقاد لدى البعض بأن تعارض المصالح قد يعني صراع الحضارات، أي أن العلاقة بين الشعوب عبارة عن صراع يقضي فيه طرف على آخر، وعليه تنامت ظاهرة الإرهاب من بيئة حاضنة غذتها عوامل الصراع السياسي والاقتصادي وانتشار النزاعات الإقليمية والدولية. ومن هنا جاءت أهمية قمم الرياض باعتبارها نقطة مفصليّة في العلاقات الدولية في شأن التصدي لهذه الظاهرة التي لا دين لها ولا وطن. وترجمت هذه الأهمية في مواجهة التطرف والإرهاب من خلال مركز عالمي مهمته استئصال ذلك الخطر وتجفيف منابعه والقضاء على مصادر تمويله، وهذا يفسر أن مواجهة خطر الإرهاب تتطلب غير الإجراءات الأمنية والعسكرية فهماً شاملاً للأبعاد السياسية والأيديولوجية والفكرية واللوجستية. وهنا نطرح أربعة محددات توضح سبل وضع استراتيجية عالمية لمواجهة التطرف والإرهاب في العالم: الأول، شمولية المواجهة، فلا مجال لاختزالها، لأن التنظيمات الإرهابية تنشط عبر شبكة متشعبة تجمعها روابط متعددة في معظم أنحاء العالم تشمل الأيديولوجية والتمويل والتنسيق العسكري والمعلوماتي والأمني. ومن هنا فلا مجال لاختصار المواجهة في مسرح عمليات واحد هنا أو هناك، وإنما يقتضي النجاح أن نواجه التنظيمات الإرهابية في شكل شامل ومتزامن على الجبهات كافة. وعلى سبيل المثال تخوض مصر حرباً ضروساً ضد التنظيمات الإرهابية في شمال سيناء، واستطاعت أن تحقق فيها انتصارات مستمرة وتقدماً مطرداً مع الحرص على ضبط وتيرة المواجهة ونطاقها بحيث يتم القضاء على الإرهاب بأقل خسائر ممكنة مع الحفاظ على أرواح المدنيين. وهكذا نجد أن معركة مصر مع الإرهاب هي جزءٌ من الحرب العالمية ضده. الثاني، استيعاب أبعاد ظاهرة الإرهاب في ما يتصل بثلاثة عناصر مهمة هي التمويل والتسليح والدعم السياسي والأيديولوجي، لأن الإرهابي ليس فقط من يحمل السلاح، وإنما أيضاً من يدربه ويموله ويوفر له الغطاء السياسي والأيديولوجي. أين تتوفر الملاذات الآمنة للتنظيمات الإرهابية لتدريب المقاتلين وعلاج المصابين منهم وإجراء الإحلال والتبديل لعتادهم ومقاتليهم؟ مَن الذي يشتري منهم الموارد الطبيعية التي يسيطرون عليها مثل النفط؟ مَن الذي يتواطأ معهم عبر تجارة الآثار والمخدرات؟ ومِن أين يحصلون على التبرعات المالية؟ وكيف يتوافر لهم وجود إعلامي عبر وسائل إعلام ارتضت أن تتحول إلى أبواق دعائية للتنظيمات الإرهابية وهي موجودة في دول تعلن حكوماتها أنها ضد الإرهاب؟ كل مَن يقوم بذلك هو شريكٌ أصيلٌ في الإرهاب، فهناك دول تورطت، بكل أسف، في دعم المنظمات الإرهابية وتمويلها وتوفير الملاذات الآمنة للإرهابيين. كما أن هناك دولاً تأبى أن تقدم ما لديها من معلومات وقواعد بيانات عن هذه المنظمات وأعضائها، خصوصاً من الأجانب. الثالث، القضاء على قدرة التنظيمات الإرهابية في تجنيد مقاتلين جدد من خلال مواجهتها في شكل شامل على المستويين الأيديولوجي والفكري، وبدء التعامل مع الظاهرة من حيث الأسباب وليس النتائج فقط، لأن المعركة ضد الإرهاب هي معركة فكرية بالدرجة الأولى. ويجب أن تتضمن مواجهة التنظيمات الإرهابية وشل قدرتها على التجنيد، واجتذاب المتعاطفين معها بتفسيراتٍ مشوهة لتعاليم الأديان تُخرجها عن أهدافها السمحة ووسطيتها، وتنحرف بها لتحقيق أغراض سياسية. الرابع، حماية فكرة الدولة الوطنية والتركيز على دعم مؤسساتها وتأكيد الممارسة الديموقراطية من دون سياسات للاستقطاب، واستخدام التنمية وسيلة للحفاظ على الأمن القومي للدولة. توظيف هذه العوامل سيؤدي إلى التقاء الدول على أرضية مشتركة في شأن قيام المؤسسات الدينية والمجتمعية بعملية تصويب للخطاب الديني بحيث يتم التعاطي مع جوهر الأديان، لا سيما الدين الإسلامي الحنيف القائم على قيم العدل والحق والسلام، وحتى نواجه محاولات اختطاف الدين ومصادرته لصالح تفسيراتٍ خاطئة وذرائع لتبرير جرائم لا مكان لها في الفكر والعقيدة. لهذا من الضروري أن يتم تفعيل التعاون بين المؤسسات الدينية، خصوصاً الأزهر الشريف الذي يمثل مرجعية الإسلام الوسطي المعتدل، بما يضمن فتح آفاق التعاون مع الدول الإسلامية كافة في هذا المجال. إن المواجهة الفكرية للإرهاب لا تقل أهمية عن المواجهة الميدانية، حيث يجري التعامل مع الإرهاب من حيث نتائج عملياته التي تستهدف الآمنين. يبقى الحديث عن الجانب الأميركي، فقد قام الرئيس السابق باراك أوباما بزيارة للشرق الأوسط قبل سنوات، قدّم خلالها وعوداً لم يحققها وتعهد بالتزامات لم يوفها. أما ترامب فجاء يخاطب جمعاً من رؤساء الدول والحكومات، فيما خاطب أوباما الرسميين من خلال دغدغة مشاعر المواطنين آنذاك. هل أراد ترامب حقاً فتح صفحة جديدة في العلاقات العربية الإسلامية- الأميركية؟ تقول الخبرة التاريخية إن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبحث دائماً عن مصالح واشنطن وهو حق مشروع لأي دولة، غير أنها كانت تقع دائماً في مستنقع سياسة المعايير المزدوجة، ما يجعلها تقول شيئاً وتفعل أشياء أخرى، وهي سياسة كانت السبب في سوء الفهم بين العرب والمسلمين وإدارة أوباما. ولكي تؤتي جولة ترامب ثمارها، لا بد أن تصب نتائجها في مصالح الأطراف كافة، ومن الضروري أن تعترف هذه الأطراف بالواقع مهما كان صادماً وأن تتعامل معه بشمولية ومن دون تمييز، وأن يكون هناك تعاون حقيقي بينها لمكافحة التطرف والإرهاب. * كاتب مصري.