عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال: «قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به»، قال: ((قل ربي الله، ثم استقم))، قلت: «يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟» فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا)).كلمات ندية، خرجت من فم طاهر، وعمل بها خير السلف والخلف، فكان الإسلام بروعته وحضارته وأمجاده التي أخرجت البشرية كلها من ظلمات الجاهلية والوثنية، وعبودية البشر للبشر إلى أفق رحب من الحرية والطهارة والنقاء، بما لا عهد لهم به في أي منهج آخر، فأكرم بالإسلام دينا وأكرم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نبيا، قال تعالى: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ [فصلت:30].وقال - جل ذكره -: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [الأحقاف:13].فقوله تعالى: ﴿ربنا الله﴾: ليست كلمة تقال، بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير، إنما هي منهج كامل للحياة، يشمل كل نشاط فيها، وكل اتجاه، وكل حركة، وكل خالجة، ويقيم ميزانا للتفكير والشعور، وللناس والأشياء، وللأعمال والأحداث، وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود.﴿ربنا الله﴾: فله العبادة وإليه الاتجاه، ومنه الخشية وعليه الاعتماد.﴿ربنا الله﴾: فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه، ولا خوف ولا تطلع لمن عداه.﴿ربنا الله﴾: فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه، منظور فيه إلى رضاه.﴿ربنا الله﴾: فلا احتكام إلا إليه، ولا سلطان إلا لشريعته، ولا اهتداء إلا بهداه.﴿ربنا الله﴾: فكل من في الوجود وكل ما في الوجود مرتبط بنا، ونحن نلتقي به في صلتنا بالله.﴿ربنا الله﴾: منهج كامل على هذا النحو، لا كلمة تلفظها الشفاه، ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة.﴿ثم استقاموا﴾: وهذه أخرى، فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج، استقامة النفس وطمأنينة القلب، استقامة المشاعر والخوالج، فلا تتأرجح ولا تضطرب، ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات، وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة، واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار، وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات، وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك.﴿ربنا الله﴾: منهج، والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره، والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة وهؤلاء: ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾، وفيم الخوف وفيم الحزن والمنهج واصل، والاستقامة عليه ضمان الوصول؟!.قال المناوي: ((قل: آمنت بالله))، أي: جدد إيمانك بالله ذكرا بقلبك، ونطقا بلسانك بأن تستحضر جميع معاني الإيمان الشرعي، ((ثم استقم))، أي الزم عمل الطاعات، والانتهاء عن المخالفات، إذ لا تتأتى مع شيء من الاعوجاج، فإنها ضده وانتزاع هاتين الجملتين من آية: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾، وهذا من بدائع جوامع الكلم، فقد جمعتا جميع معاني الإيمان والإسلام اعتقادا وقولا وعملا، إذ الإسلام توحيد، وهو حاصل بالجملة الأولى والطاعة بسائر أنواعها في ضمن الثانية، إذ الاستقامة امتثال كل مأمور، وتجنب كل منهي، وعرفها بعضهم بأنها المتابعة للسنن المحمدية مع التخلق بالأخلاق المرضية، وبعضهم بأنها الاتباع مع ترك الابتداع، وقيل: حمل النفس على أخلاق الكتاب والسنة، قال القشيري: وهي درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، وقال بعضهم: لا يطيقها إلا الأكابر، لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات.