في عام 1921، أقيم في متحف «جو دي بوم» في باريس، واحد من أول معارض القرن العشرين المكرسة في العاصمة الفرنسية للفن الهولندي، وكان من بين معروضاته ثلاث لوحات للفنان الذي لم تكن له في ذلك الحين الشهرة التي يتمتع بها حالياً، فرمير، واللوحات هي «الفتاة الشابة ذات اللؤلؤة»، «أناء الحليب»، وبخاصة «منظر في دلفت». يومها كان من بين زوار المعرض الكاتب مارسيل بروست الذي سيبدو أكثر الناس افتتاناً به، وبأعمال فرمير، لكن خصوصاً باللوحة الأخيرة التي لن تجتذبه فقط بل ستحدث تأثيراً كبيراً في علاقته بالألوان. لكن بروست لن يكتب عن اللوحة في شكل مباشر، ما عدا في رسالة يبعث بها الى صديقه ومكاتبه الناقد جان لوي فودواييه - الذي سيُعتبر هو أيضاً أحد أكبر مكتشفي فرمير في فرنسا -، بل سيذكر بروست اللوحة في الجزء الخامس من روايته/ الصرح «البحث عن الزمن الضائع»، وهو الجزء المعنون «السجينة»، حيث يحدثنا عن زيارة يقوم بها الكاتب بيرغوت الى المعرض نفسه ليقف ذاهلا أمام «منظر في دلفت» مبدياً إعجابه بتلك البقعة الصغيرة من الجدار الأصفر الى يمين اللوحة، حيث «يكاد المرء يرى بأم العين ومن بعيد فراشة صفراء تعبر فسحة الجدار»، ما يطبع لوناً أصفر فوق اللون الأصفر. من الناحية الشكلية، اعتبر هذا الوصف المفعم في دقته جزءاً من حساسية بروست الفائقة تجاه الألوان، وهي حساسية لا يمكن لقارئ أجزاء «البحث عن الزمن الضائع» إلا أن يحسها في العديد من المواقف والمواقع، الى درجة أن كثراً وصفوا فن بروست بأنه فن التوغل في الألوان، لكن هذا موضوع آخر طبعاً. فنحن هنا لسنا في صدد الحديث عن بروست، لكن عن فرمير، وتحديداً عن «منظر في دلفت»... > مهما يكن من أمر، فإن هذه اللوحة اكتسبت منذ حضورها في أدب الكاتب الفرنسي الكبير، شهرة واسعة. ونال الشهرة في شكل خاص ذلك الجزء من اللون الأصفر الذي ما كان في إمكان أحد أن يتوقف عنده بمثل ذلك التفصيل لولا إشارة بروست. غير أن اللوحة، بهذا الأخير أو من دونه، تبقى عملاً له فرادته في متن أعمال فرمير، وعلى غير صعيد. فهي الوحيدة من بين اللوحات الباقية من هذا الفنان، التي تصور مشهداً عاماً في الهواء الطلق، وواحدة من لوحتين صورتا مشهدين خارجيين إذا أضفنا إليها لوحة «الزقاق» المنسوبة بدورها الى فرمير والتي، حتى هي، يمكن اعتبارها لوحة شبه داخلية تنتمي الى ذلك العالم الجوّاني الساحر الذي دائماً ما صوّره فرمير في لوحاته. ونحن نعرف طبعاً، أن ذلك الرسام المدهش و «الغامض» اكتفى - على الأقل في اللوحات القليلة التي بقيت منه وعددها لا يتجاوز الثلاث دزينات، منها ثلاث فقط موقّعة في شكل صريح، ما جعل اللوحات المتبقية، على قلتها بالنسبة الى حياة قصيرة عاشها الرسام، موقع جدال وسجالات طوال عقود - اكتفى بأن رسم مشاهد داخلية جعلت منه رسام الحياة المنزلية في هولندا المنتقلة منذ زمن رمبرادت الى زمنه، من الفنون المقدسة الى الفنون الدنيوية بتفاصيلها التي تكاد تكون سجلاً لحياة الصعود البورجوازي المديني. وقد اتسمت لوحاته بما يجعل منها صورة شبه ممسرحة - في المضمون وليس في الشكل - لتلك الحياة. ومن هنا، إذ تقف لوحة «منظر في دلفت» فريدة نوعها دافعة الى التساؤل حول ما حدا بالرسام يوماً الى الخروج من حرم منزله - أي من عالمه الخاص الذي اعتاد أن يطل منه على العالم الواسع الكبير -، ليتوقف عند تلك النقطة الى الجنوب من المدينة، مصوّراً هذه الأخيرة في تلك اللقطة العامة التي فتنت الكثر، ومنذ افتتان بروست بها في شكل خاص. > غير أن هذا التوجه المنطقي الى التساؤل حول دوافع فرمير لتحقيق هذه اللوحة سرعان ما يسقط أمام جمالها وسحرها، لكن أيضا أمام «توضيبها المسرحي» البالغ الرهافة. هذا التوضيب الذي جاء ما كتبه بروست حول الجدار الأصفر وفراشته الصفراء ليضفي نوعاً من أسطورية لا شك في أنها تجرّ عين المتفرج، قارئ بروست، جرا الى تلك النقطة من اللوحة التي باتت مذّاك مركزية في أسطوريّتها. وكما قلنا قارب فرمير في هذه اللوحة موضوعًا نادراً في متنه العملي. وتقول سيرة حياته أن هذه اللوحة التي رسمها بين 1660 -1661، وتبلغ أكثر من ستة وتسعين سنتمتراً ارتفاعاً، وأكثر من مئة وسبعة عشر سم عرضاً ( وتوجد اليوم معلقة في متحف موريشويس في مدينة لاهاي الهولندية)، لم «يجرؤ» على مبارحة منزله بأدواته وألوانه، إلا بعد أن كان قد «تمرّن» على الرسم في الخارج من طريق تحقيقه لوحة «الزقاق»، قبل ذلك بسنوات قليلة، علما أن هذه اللوحة الأخيرة تعتبر نوعاً من الاستكمال لعالمه الداخلي كما ألمحنا. لكنها كانت ضرورية لبلوغه ذلك المستوى الذي مكنه من الخروج كلياً الى البعيد ليرسم اللوحة التي نحن في صددها هنا. > يبقى أن علينا هنا أن نحاول موضعة «منظر في دلفت» في مكانها الطبيعي، ليس بالنسبة الى عمل فرمير هذه المرة، بل بالنسبة الى فن المدن الهولندي في ذلك الحين. حيث أن تاريخ الفنون في نلك المنطقة ذات التقدم الفني المدهش الذي وصل الى أوجه خلال القرن السابع عشر - الذي عاش فرمير فيه وأبدع لوحاته القليلة خلاله -، يفيدنا بأن بلديات تلك المدن كانت تحرص على أن تكلف كبار فنانيها بأن يرسموا، ولو مرة في حياة الواحد منهم، منظراً عاماً للمدينة يكون نوعاً من الاستكمال لفن رسم الخرائط الذي اعتاد أن يحظى بأهمية كبيرة في العالم المديني. ولعل المرء لا يفوته أن يلاحظ في العديد من لوحات فرمير «الجوّانية» نفسها، حرصه على أن يصور تلك الخرائط معلقة على جدران الغرف التي يصوّر أحداثاً تدور فيها. وهي غرف غالباً ما تكون موجودة داخل منزله نفسه. ومن هنا الافتراض بأن فرمير قد حقق هذه اللوحة لحساب بلدية المدينة. ومن المفترض أن تكون هذه الأخيرة قد أحست بقدر كبير من الفخر أمام مشهد يبدو فاتنا من النظرة الأولى. وذلك لأن الرسام، إذ وجد نفسه هنا، ومن الموقع الذي اختاره لتصوير المدينة ناظراً إليها من الجنوب شمالاً، أحسّ طبعاً بجمال المشهد، وعبّر بقوة عن ذلك، لكنه وفي الوقت نفسه - وتماماً كما سيفعل بعده بما لا يقل عن قرنين من الزمن، الرسام الإنكليزي دافيد روبرتس في نقله مشاهد مدن شرقية في مصر أو فلسطين أو الشام -، أحس بضرورة ألا تكون مقدمة المشهد محايدة، ولهذا أرجع منظوره الى الوراء بعض الشيء لتشمل لوحته بضعة أشخاص مرتدين ثياباً زرقاء غامقة وهم متحلقون من حول ميناء صيد ومراكب صغير في الجانب الأيسر من مقدمة اللوحة. والحقيقة، أن هذا التأطير الساحر للمشهد من مقدمته خلق في اللوحة توازناً دقيقاً وأعطاها بعداً جعل للرسام نفسه شركاء يبدون مثله ناظرين الى مشهد المدينة وهو مؤطر بين بابيها الرئيسيين: باب شيدام الى اليسار وباب روتردام الى اليمين، من دون أن ننسى هنا حرصه على أن تظهر «الكنيسة الجديدة» في عمق المشهد وقد أسبغت عليها أشعة الشمس المشرقة بهاء جديراً بها، يمكنه أن يرضي البلدية التي كانت تعتبر تلك الكاتدرائية البروتستانتية الجليلة آية عمرانية. ولعل ما يلفت هنا، أن تلك الكنيسة تخلو، إن دققنا في اللوحة، من أية أجراس، ما يحدد بكل وضوح تاريخ اللوحة، أي قبل عام 1660 بالنظر الى أنه من المعروف في تاريخ المدينة أن الأجراس لم تُضَف الى تلك الكنيسة إلا في عام 1660. > مهما يكن، عرف فرمير (1632 - 1675)، كيف يجعل للمدينة التي لم يعش خارجها، وفي ذلك المشهد الوحيد العام الذي رسمه لها، صورة نادرة في جمالها وتكوينها، وحتى لو كانت تنطق بألوانها، لا سيما الأصفر الذي التقطه بروست وأسطره، فإنها نطقت عنه، هو الذي لفرط صمته وصمت أخباره عُرف بلقب «أبو هول دلفت».